لست أول من يطرح هذا السؤال، ولن أكون آخر من يطرحه، فهو يتجدد كلما تهب عاصفة من الخلافات بين مصر وأى دولة عربية، وكانت آخر تجلياته حالة الاحتقان الدائرة الآن بين مصر والجزائر، بسبب مباراة كرة قدم انتهت بفوز الجزائر على مصر فى الخرطوم، وصعودها إلى تصفيات كأس العالم.
تتنوع الإجابة على هذا السؤال، وتتخذ سبيلها إما بقناعات أيدلوجية مسبقة ترى أن مصر لن تكفر بعروبتها أبدا، وأن مصلحة الشعوب العربية فى تواصلها وليس فى خلافات حكامها، وعلى الضفة النقيضة من ذلك يقف المتربصون بأى تقارب عربى، ويخرجون من جرابهم كل دعاوى الانعزالية لمصر، ويصبغونها بطلاء متنوع الألوان، بدءا من أن مصلحة مصر فوق الجميع، مرورا بأنه كفى على مصر ما أعطته للعرب، وانتهاء بأن تقدم مصر لن يتحقق إلا بالتواصل مع الغرب، وبقدر ما تبدو هذه الرؤية ضد التاريخ والجغرافيا، بقدر ما تؤدى إلى تلطيش نفسى فى العلاقات الشعبية بين مصر والعرب، خاصة أن الدول العربية لديها ما تقوله أيضا فى المساعدات التى قدمتها لمصر إما أثناء حروبها ضد إسرائيل، أو على صعيد عملية التنمية، والشاهد على ذلك كثير ومنه مساعدات سعودية وكويتية وليبية وإماراتية وغيرهم.
وتقف مدينة الشيخ زايد التى تكفل ببنائها المرحوم الشيخ زايد بن نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، صرحا شامخا من هذا الرجل العظيم الذى ما كان له أن يخطو هذه الخطوة، بالإضافة إلى مساعدات أخرى إلى مصر، لولا إيمانه المطلق بعروبته، وأن مصر قلبها النابض، فهل من اللائق أن ندير ذاكرتنا عن مثل هذه المواقف باستدعاء دعاوى الانعزالية المزركشة بكل أنواع السباب والشتائم للعرب، ونقل هذه الإنجازات من باب تعميق التواصل إلى باب النكران والجحود.
أقول ذلك، وتحفظ ذاكرتى لقاء وديا تم منذ سنوات مع رئيس تحرير جريدة إماراتية كبرى، وكان اللقاء فى حضور زملاء آخرين يتحدثون مع الرجل عن كيفية النهوض بصحيفته، وتبارى الكل فى اتخاذ جريدة الحياة اللندنية نموذجا صحفيا يجب اتباعه، وبعد أن استمع الرجل إلى الجميع فاجأ الكل بقوله، لماذا تركزون على صحيفة الحياة، ولا تنظرون إلى تجاربكم المصرية الرائدة فى الصحافة، وأضاف الرجل لديكم رواد الصحافة فى المنطقة العربية، ولديكم أفضل الكتاب والصحفيين الذين شربنا المهنة منهم، وجاءوا إلى بلادنا للمساهمة فى تأسيس الصحف، لماذا لا تلفتون إلى كل ذلك؟.
نزلت كلمات الرجل علينا بردا وسلاما، وأدت إلى إفاقتنا جميعا، وكانت عظمتها أنها لا تأتى من مصرى يمكن اتهامه بالشوفينية والتعصب، وإنما جاءت من رجل عربى مصرى الهوى فى كل شىء، وبعد انصراف الجميع كان لى حظ الاستماع إلى الرجل فيما يتعلق بسؤال لماذا يحب مصر؟، طرح هو السؤال، وقدم الإجابة التى امتزجت فيها السياسة بالإنسانية، قال إنه واحد من أجيال عاشت على المعونات التى كان تقدمها مصر عبد الناصر إلى دولتهم تحت الاحتلال الإنجليزى، من ضمنها أدوات مدرسية للتلاميذ فى دراستهم الابتدائية، ولما استقلت البلاد كانت مصر بجامعتها هى قبلتهم فى تحصيل العلم، وعاد هؤلاء إلى بلادهم يحفظون شوارع القاهرة كأبنائها، وأضاف الرجل فى حسرة أنه وأمثاله فى طريقهم إلى الغروب والزوال، وأن الأجيال الجديدة لا تعرف هذا التاريخ، كما أن تدهور التعليم فى مصر جعلهم يتجهون نحو الجامعات الغربية.
...يتبع