هذا البلد على كل عظمته ومؤسساته وتاريخه الحضارى والسياسى، وعلى كل هذا العدد من كوادره المعارضة وأحزابه السياسية وحركاته الاحتجاجية، أثبت أن بيانا واحدا يصدر عن مكتب دكتور فى القانون، يعيش فى الخارج منذ أكثر من ربع قرن يمكن أن يقيم الدنيا ولا يقعدها، ويزلزل الأرض من تحت أقدام الجميع.
هذا البلد بكل خبراته الطويلة فى ميدان الحرية ،والليبرالية، والاختلاف، وتعدد الرؤى فى التراث الثقافى والاجتماعى والفكرى والدينى وبكل كياناته الدستورية، وأجهزته الشعبية والبرلمانية والتنفيذية، أثبت أيضا أنه قابل للانهيار السريع أمام جروب صغير على الفيس بوك، يخترعه مراهق صغير يرشح فيه من يشاء، ويحرم فيه من يشاء، يحرك به المظاهرات، ويشكل به الرأى العام، بل ويفرض أجندته على الإعلام المصرى بصحفه الراسخة منها وفضائياته المرموقة.
هكذا صارت الساحة السياسية والاجتماعية المصرية خاوية إلا من البيانات الساذجة، وساكنة إلا من جروبات الفيس بوك، وهكذا صارت النخبة المصرية فى حالة تفرغ كامل لاستقبال أى نوع من الطيش السياسى الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع، ولا يحرك هذا البلد المأزوم خطوة إلى الأمام، أو حتى يساعده على تنشيط دورته الدموية على طريقة الحركة فى المكان (محلك سر).
لا يجوز هنا أن نلوم أصحاب الجروبات السياسية المراهقة على الفيس بوك، ولا يجوز أيضا أن نوجه لوما مماثلا لرجل فى مكانة الدكتور محمد البرادعى، الذى نحترمه ونقدره من كل قلوبنا، لأنه صدّق أن الشعب المصرى يريده مرشحا رئاسيا بسبب جروب صغير على هذا الموقع الاجتماعى، اللوم هنا على هؤلاء الذين فرّغوا الساحة السياسية المصرية من الكوادر والقيادات والنشطاء، شبابا وشيوخا فى السياسة والعمل الحزبى داخل مصر، إلى الحد الذى ظن المراهقون منا أن الحلم قد يأتى على يدى رجل مصرى مغترب، لا يعرف شكل (الربع جنيه)، ولم يشاهد (التوك توك) إلا فى تقارير شبكة سى إن إن، ولا يستطيع قيادة سيارة فى زحام شوارع وسط البلد، ولم يحتك بأمين شرطة فى لجنة على طريق مصر إسكندرية، ولا يعرف الفرق بين الشيخ محمد حسان والكابتن محمد أبوتريكة.
اللوم على هؤلاء الذين كتموا على أنفاس الأحزاب الشرعية، وحاصروا العمل السياسى داخل الجامعة، وضربوا المنظمات المدنية من الداخل، وفرضوا الحراسة على النقابات المهنية، وكسروا شوكة الحركة العمالية، وأمموها لصالح السلطة الآن وإلى الأبد، اللوم على هؤلاء الذين جفت معهم كل شرايين الإصلاح السياسى، فلم تنبت تحت أعينهم زهرة جديدة إلا داسوا عليها بالأقدام، ولم تشرق أمامهم مبادرة سياسية واعدة، إلا تآمروا عليها ودفنوها وهى نابضة بالحياة.
اللوم هنا على السلطة التى ظنت أنها تتربع واثقة ومنفردة على أنفاس الناس، فصارت كرماد تذروه الرياح، يتلاعب بها بيان صادر من مصرى مغترب فى فيينا، أو بيان صادر من أقباط مغتربين فى واشنطن ،أو جروب هزيل من شباب مغترب داخل بلاده على الفيس بوك، ولو أن هذه السلطة تركت الحرية للأحزاب السياسية الشرعية، وللحركات الطلابية الواعدة، وللعمل المدنى والنقابى، لزادتها هذه الحرية قوة على قوتها، ولدفعتها هذه المنافسة إلى المزيد من الرسوخ على أسس من المنافسة الشريفة والقواعد العادلة.
لا يمكن استمرار الحال على هذا النحو الذى يدفع البلد إلى المزيد من التردى، والكثير من السذاجة والطيش والمراهقة السياسية، على الأقل يجب أن ننظر إلى ما نمتلكه من خبرات وكوادر فى الداخل ،كلها تصلح لأن تتولى مواقع المسئولية، وكلها جاهزة لأن تقوم بدورها فى فرض أجندة أكثر رقيا ونضجا على الرأى العام فى مصر، لا أطالب هنا بتعديل دستورى جامح على طريقة الدكتور البرادعى فى بيانه السياسى، فالإصلاح السياسى فى مصر يحتاج ما هو أكثر من التعديل الدستورى، يحتاج أولا إلى تعديل العقل السياسى لدى النخبة المصرية، نحتاج إلى دستور داخلى لهذه النخبة، إلى رؤية عابرة للمراهقة، تصل بنا إلى سن الرشد فى العمل السياسى على صعيد السلطة والحزب الحاكم من جانب، وعلى صعيد الجماعة السياسية الوطنية فى الجانب الآخر.
أدعو هنا السلطة السياسية أن تعيد التفكير فيما وصل إليه حال النخبة فى مصر، وألا تتصور أن هذا التردى الذى تتحكم فيه جروبات الفيس بوك، يمكن أن يساعدها على البقاء إلى الأبد، بل على العكس من ذلك، يمكن أن يطيح بها فى عاصفة هوجاء فاقدة للرشد وعديمة الأهداف والرؤى، على السلطة أن تدرك أن من مصلحتها الأساسية رقى هذه النخبة السياسية، وتحريك الأحزاب الشرعية، والسماح بظهور نجوم جدد فى ساحة العمل العام الداخلى، أطلقوا سراح رؤساء الأحزاب المصرية، أطلقوا سراح نشطاء الحركات السياسية الاحتجاجية، أطلقوا سراح أساتذة الجامعات من الخبرات المرموقة فى العمل العام، أطلقوا سراح المنظمات المدنية والحقوقية، أطلقوا سراح الوزراء ورؤساء الوزراء السابقين للمشاركة فى العمل العام بحرية، أطلقوا سراح النقابات المهنية والعمالية، وقتها ستصنعون بلدا قويا تفاخرون به العالم، سواء كنتم فى السلطة أو خارجها، ولن تتخبط أقدامكم من البيانات الخارجية أو ترتجف قلوبكم من جروبات الفيس بوك.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة