حتى تصل للورقة الأخيرة من تلك المسرحية فأنت فى حالة دهشة وصورتك إن شاهدتها فى تلك اللحظة لن تخرج عن منظر من الاتنين، إما وجه "متنح" يصاحبه فم مفتوح أو ابتسامة رضا يصاحبها اهتزاز للرأس مثل تلك الحركة التى يجيد فعلها أبو قردان، وفى كلتا الحالتين لن يمتنع كفا يديك عن الانضمام لبعضهما مع صوت فرقعة استكمالا لحالة الدهشة والاندهاش التى تعيشها.
وتستكمل حالة الاندهاش قائلا: "يااااه مش معقول ثم تصرخ وتستكمل جملتك أخيرا وتقول "مش معقول توفيق الحكيم يكتب الكلام ده" ثم تستعيد حالة الاندهاش مرة أخرى، وتضم الكتاب الصغير وتحتضنه بيدك وتقلبه يمينا ويسارا بين أصابعك فى محاولة للتأكد بأن الصورة الموجودة على غلافه هى فعلا صورة لتوفيق الحكيم وليس شبحه، ثم تقرب الكتاب أكثر وأكثر من عينيك السودويين أو أيا كان لونهما لتتأكد بأن اسم المسرحية هو رصاصة فى قلبين وليس رصاصة فى القلب" التى نعرفها جميعا.
الصفحات الأولى من الكتاب الصغير الذى يضم المسرحية، تشرح لك قصة هذه المسرحية المجهولة لتوفيق الحكيم وقصة كتابتها وحدوتة نشرها وكيف أنها تنشر للناس للمرة الأولى، بعد أن تنتهى من تلك الحدوتة ويحدث لك ما حدث.. يعنى بعد ما تقرأ المسرحية وتتعجب وتستغرب وتستنكر سيصيبك بعض من الهدوء المخلوط بشوية ابتسامات هادئة، مصحوبا بجملة واحدة تقول: "أما الكبار دول عليهم حاجات".
ياه يا عم توفيق إيه الجمال والخيال والبساطة دى، تخيل كاتب بحجم توفيق الحكيم وفكره وعبقريته ووقاره وهو يكتب عشرة أو عشرين ورقة بتلك الخفة والبساطة، مسرحية من أجل التهييس فقط اسمها "رصاصة فى قلبين" ولا تتعجب من تشابه الاسم مع مسرحية توفيق الحكيم الخالدة "رصاصة فى القلب" والتى تحولت إلى فيلم سينما قام ببطولته عبد الوهاب، فتشابه اسم المسرحيتين لم يأت من فراغ فتوفيق الحكيم لم يفعل شيئا سوى أنه قرر إعادة كتابة رصاصة فى القلب بأسلوب مختلف وإستايل جديد فخرجت تلك الرائعة التى نشرتها دار الشروق أخيرا منذ عامين فى كتاب من القطع الصغير لم يصل تعداد صفحاته إلى المائة. فى رصاصة فى قلبين.
يكشف توفيق الحكيم عن جانب آخر من شخصية المثقف الذى ينظر الناس إلى شيبته ووقاره وعصاه التى يتعجز عليها على أنها صورة كاملة للكلاسيكية والأفكار المعلبة، هذا الجانب من المسخرة الكوميدية والبساطة فى الأسلوب وعبقرية الفكرة المختلفة انكشف فى تلك المسرحية التى حاول توفيق الحكيم أن يرسم بها صورة جديدة للمرأة ومكانتها فى قلبه، وحاول أن يعيد للشعر ريادته فى تكوين الأفكار وتداولها وصور فيها صورة أخرى للديمقراطية المنتظرة وسحرها.
المسرحية قد تراها وأنت تقرأها وكأنها شىء مسلٍ فى رحلة سفر تقول كل هذا وأكثر تتحدث عن الوحدة العربية وسبل تحقيقها وعن دور الأدب والثقافة فى تكوينها، تتحدث عن الديمقراطية وكيفية استخدامها، تكفر بالسياسيين العرب وتلعن اليوم الذى ظهرت فيه تلك الفئة التى تحكم بالعصا وماء النار.
المسرحية البسيطة فى كلامها ليست كذلك أبدا فى أفكارها فهى دعوة صريحة لشعوب المنطقة أن يحرروا أفكارهم مرة أخرى ويطلقوا أحلام الحرية من أقفاصها، دعوة صريحة للشعوب العربية تطالبهم بالكفر بالسياسيين العرب وكروشهم التى امتلأت فوق عروشهم، دعوة تقول إن الشعوب لا الحكام هم طريق تلك الأمة نحو حضارة محترمة ووحدة ثقافية وفكرية تدوم للأبد.
هذا ملخص ما يدور بين سطور تلك المسرحية التى تدور أحداثها حول اجتماع مجموعة من سيدات المجتمع العربى فى صالون نسائى من أجل التحضير لمؤامرة هدفها الأساسى هو خدمة التراث العربى من خلال عمل شعرى غنائى يشترك فى تأليفه وتلحينه توفيق الحكيم مع محمد عبد الوهاب، فهذا الاجتماع النسائى كان يهدف إلى استخدام فتاة صغيرة تتمتع بجمال قوى من أجل تقديم الشحن العاطفى المناسب لأكبر أديب وأكبر موسيقار فى الوطن العربى لدفعهما لإنتاج عمل إبداعى كبير يعبر عن وحدة وترابط الوطن العربى بكل فئاته وأشكاله.
ويتابع الحكيم فكرته المجنونة بأن يعترف هو وعبد الوهاب بكبر سنهم وشيخوختهم وعدم قدرتهم على مجاراة جمال الفتاة الصغيرة ويستأجر الحكيم نور الشريف ليحل محله ويعود به لمرحلة الشباب ويستأجر عبد الوهاب محمود ياسين ليفعل نفس الشىء حتى يستطيع أن يفوز بقلب الفتاة الجميلة.
وهكذا يحاول توفيق الحكيم وعبد الوهاب الرد على مؤامرة سيدات المجتمع بمؤامرة أخرى ثم تتحول اللعبة إلى لعبة ثلاثية حينما يشترك فيها نور الشريف ومحمود ياسين من أجل الإيقاع بالفتاة الجميلة، ويحاول الحكيم من خلال نور وياسين أن يلقى الضوء على بخله وعلى إسراف عبد الوهاب وحبه للنساء وينقل الحكيم الأحداث لسويسرا والحرب الدائرة بين توفيق الحكيم المزيف وعبد الوهاب المزيف أيضا من أجل الفوز بحب "فيفى"، بينما فى القاهرة كان الصراع يدور بين توفيق الحكيم الحقيقى وعبد الوهاب الحقيقى على شىء هو أيضا حقيقى هو عمل شعرى غنائى يقول بأن وحدة العرب وتقدمهم لن تبدأ من عند أوغاد السياسة بل تبدأ من فوق المسرح.. من الفن والثقافة.
هذا ما أراد أن يقوله الحكيم ولكن ما لا يدركه الحكيم الآن أن أوغاد السياسة نجحوا فى أن يسحبوا الفن والثقافة فى الو طن العربى إلى حظيرتهم ولم يعد للعرب لا فن ولا ثقافة، مشتركة كانت أم فردية والبركة فى ملوك الهشك بشك الذين حطموا حلم توفيق الحكيم "بالمرزبة".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة