إذا أردت أن تتعرف على واقع العلاقة بين الأجيال العربية القادمة فعليك أن تغوص قليلا فى شبكة الإنترنت الدولية، بعدها ستكتشف أن العلاقات العربية الرسمية المهترئة، تعد أفضل كثيرا من العلاقات الشعبية التى تربط بين الأجيال الجديدة التى تعتبر عماد المستقبل، والأمل فى غد أفضل.
على موقع يو تيوب "youtub" حاليا توجد ثورة اسمها "هيب هوب" أو أغانى "الراب العربية" وهو لون من الغناء يسود وينتشر بقوة بين الشباب فى معظم أنحاء العالم.. هذا الفن يتخذ أشكالا متعددة حسب البيئة والمناخ الثقافى لكل مجتمع.. أهم سمات هذا النمط من التعبير هو التحرر من كل القيود والأطر التقليدية التى تحكم الفن والإبداع.. أصحابه يؤلفون ويلحنون أغانيهم على إيقاعات موسيقاهم المحلية، مستعينين بالحلول التكنولوجية البسيطة.. أغلب هذه الفرق تحمل رموزا وأسماء حركية تعبر عن مشاكلهم ومعاناتهم، فالفرق المصرية تحمل اسم "الأسفلت" والسعودية "كلاش" أما فى المغرب أشهرها فرقة "الخاسر".
من خلال هذا الفن التلقائى استطاع الشباب العربى التعبير بصدق عن الواقع المرير الذى تعيشه أغلب الشعوب العربية، بعد أن ترجموا بدقة مشاعر الحقد والكراهية النائمة تحت جلد الكثير من العرب ضد بعضهم البعض.. بنظرة سريعة على إبداعات فرق الـ"هيب هوب" العربية سنجد عشرات الأغانى التى يسخر فيها كل فريق من أبناء الدول الشقيقة.. الكويتى يتندر على العمانى والإماراتى يسخر من اليمنى واللبنانى يهزأ بالسورى والليبى يسب التونسى، والجزائرى يلعن المغربى.. إذا تأملنا الأغانى التى أنتجتها بعض الفرق السعودية للسخرية من المصريين نجدها شديدة القسوة فكلماتها خرجت عن كل الأصول وحطمت كل قواعد الأدب بسبب إيحاءاتها الجنسية، وما تتضمنه من سب وقذف يعاقب عليه القانون.
الحقيقة أن فريق "وكر العصفور" السعودى الذى ألف وأعد وأنتج ووضع هذه الأغانى المسمومة على شبكة الإنترنت، حرض فرق "الراب" المصرية.. فردت على الإهانة بأفضل منها.. هذه الفرق قدمت أغانى وكليبات تتضمن مشاهد وكلمات لا تقل وقاحة عن مثيلاتها السعودية.
اللافت أن الفريق السعودى لم يوجه بذاءته وعنصريته ضد مصر وشعبها وتاريخها فقط، بل طالت ألسنتهم السليطة قبائل وطوائف داخل السعودية نفسها مما استدعى السلطات هناك إلى الزج بأشهر نجومها فى السجن ثلاثة أشهر.. هذا الشاب خرج من تجربة السجن بمجموعة أغانى أكثر اعتدالا وأقل عنصرية.. بعضها أقرب للتصوف وتميل إلى اللون العاطفى الذى لا يهواه الثوريون الجدد.
لست غاضبا من أغانى الشباب السعودى الذى سخر ونال وأهان فيها الشعب المصرى كله، حتى الفراعنة لم ينجو من تطاولهم.. سبب عدم غضبى أننا كمصريين اعتدنا على مثل هذا السلوك العدوانى من بعض الأشقاء!
على كل حال أدعو علماء الاجتماع والباحثين لدراسة هذه الظاهرة الجديدة والكشف عن أسباب انتشارها بهذه السرعة بين الشباب العربى.. فقد آلمنى كثيرا أن ُتبدد هذه الطاقة الخلاقة وأن يتم الانحراف بها نحو المزيد من تعميق العداوة ونشر البغضاء والفرقة بين شعوب مقهورة مظلومة ومغلوبة على أمرها.
المدهش أن هذه الفئة لم توجه كراهيتها إلى خصومهم الحقيقيين بينما صبوا جام غضبهم وكراهيتهم على أشقائهم، الذين يشاركونهم نفس المصير ونفس الهموم والمتاعب مهما اختلفت أشكالها.
شخصيا لست ضد تحرر الشباب ولا أؤيد قمعهم أو الحد من جموحهم ولا التصدى لثوريتهم، بل على العكس أرى أنه من الأفضل تشجيعهم على المزيد من التعبير بكل الوسائل وإفساح المجال أمام إبداعهم بالطريقة التى يختارونها، وبالشكل الذى يحلو لهم أن يظهروا فنهم من خلاله.. لكن الأمر المثير حقا أن يتحول هذا النمط الفنى إلى بوابة لنشر روح الكراهية والشقاق بين الشعوب وأن يصبح وسيلة للترويج للسلوكيات الشاذة والألفاظ الهابطة المنافية للأخلاق والآداب العامة التى تربينا عليها منذ صغرنا.
أعترف بأن هذا الفن الجديد هو تجلى حقيقى للشخصية العربية التى تعانى من الازدواجية، كما أعترف أن أبناء وكر العصفور وغيرهم يعبرون بصدق عن واقع موجود بالفعل ويعكسون مشاعر حقيقية مدفونة منذ زمن طويل ولم تتح لها فرصة الظهور والانتشار إلا من خلال ثورة الاتصالات التى ساعدت تلك العصافير على التحليق والانطلاق من "أوكارها".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة