خالد صلاح

قراءة أخرى فى ملف قضية نبيل البوشى وعلاقتها بالسياسة

الخميس، 12 فبراير 2009 11:10 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
نبيل البوشى ليس سوى اختصار دقيق لهذه الحالة، التى تسيطر على عدد هائل من أصحاب رؤوس الأموال فى مصر، هؤلاء الذين يفضلون المضاربة عالية الربح على المشاركة فى نشاط صناعى أقل ربحا وأكثر جهدا وأطول انتظارا، وهؤلاء الذين يهرولون إلى شراء الأراضى وتسقيعها للفوز بكعكة هائلة من الأرباح، عن المشاركة فى شركات تنمية عقارية تحقق ربحا معقولا وتساهم فى تنمية اقتصاديات الدولة.

الناتج الوحيد الذى يمكن فهمه من قضية نبيل البوشى، مدير شركة أوبتيما للأوراق المالية، وبطل عملية الاستيلاء على 48 مليون دولار أمريكى من أموال المواطنين ونجوم الفن والسياسة والكرة فى مصر، أننا أمام نخبة مرموقة من أصحاب المدخرات الكبرى ورؤوس الأموال، لا تمنح ثقتها بالقدر الكافى فى المؤسسات المصرفية والبنوك العامة والخاصة، وتفضل عليها المغامرات غير المحسوبة لعمليات توظيف الأموال والمضاربات فى البورصات العربية والأجنبية. لا أبتغى هنا إدانة مسبقة، أو أسعى لوضع اللوم على هؤلاء الذين حلموا بأرباح أكبر لمدخراتهم، هذا حقهم واختيارهم على أى حال، وهم وحدهم يحصدون الربح أو يدفعون الثمن، ولكننى أقرأ فقط مؤشرات مهمة على حالة من فقدان الثقة فى المؤسسات المصرفية الراسخة، أو فى عمليات الاستثمار العلنية والقانونية التى تتولاها البنوك، داخل حقل النشاط الاقتصادى فى البلد، فنحن أمام نخبة لم تطرح سؤالا واحدا مهما وحيويا وأساسيا، هو: (كيف يمكن لأى نشاط استثمارى، أيا ما كان، أن يحقق ما يزيد على 30 % أو أكثر عائدا على رأس المال، فى حين أن أكبر البنوك العامة لا تمنح أكثر من 10 إلى 12 % على هذه المبالغ نفسها؟).

المعنى هنا أن المجالات التى تضارب فيها هذه الأموال غير مهمة على الإطلاق، المهم فقط هو الربح، والربح الكبير والسعرى والفورى فى آن واحد، ليس مهما إيداع هذه الأموال فى المؤسسات المصرفية القانونية، لتنعكس هذه الإيداعات على النشاط الاقتصادى فى المجتمع، أو توفر رؤوس أموال مناسبة لتوسيع النشاط الصناعى، أو منح قروض تساهم فى نهضة مجتمع الأعمال فى البلاد، المهم فقط هو الربح، بصرف النظر عن مجاله وعن سياقه وعن طبيعته، سواء كان مضاربة أو مغامرة، سواء كان فى مصر أو فى لندن أو فى دبى أو فى سنغافورة.

أفهم بالتأكيد أنه من حق رؤوس الأموال وأصحاب المدخرات أن يبحثوا عن الربح، لكننى لا أفهم ما الذى يدفعهم إلى أن يكون هذا الربح فرديا، بلا مردود اجتماعى أو اقتصادى على المجتمع؟

وأفهم أيضا أن هؤلاء المودعين المخدوعين من الذين وثقوا فى نبيل البوشى وشركة أوبتيما تعاملوا بحسن نية، أملا فى عائد أعظم لمدخراتهم، لكنهم بأى حال وضعوا هذه الأموال لدى أوبتيما على خلفية من الاستخفاف بما تقوم به البنوك المصرية والأجنبية العاملة فى مصر، وعلى يقين من عدم جدوى الفوائد السنوية التى يحصلونها من هذه البنوك، وعلى خلفية من عدم الثقة فى مناخ الاستثمار بشكل عام فى مصر، فآمنت قلوبهم بهذا المغامر السندباد الباحث عن كنوز المضاربات فى الخارج، عن الإيمان بالاستثمار الواعد والمنتج الذى ينعكس بالرفاهية على المجتمع بأسره.

نبيل البوشى ليس سوى اختصار دقيق لهذه الحالة، التى تسيطر على عدد هائل من أصحاب رؤوس الأموال فى مصر، هؤلاء الذين يفضلون المضاربة عالية الربح على المشاركة فى نشاط صناعى أقل ربحا وأكثر جهدا وأطول انتظارا، وهؤلاء الذين يهرولون إلى شراء الأراضى وتسقيعها للفوز بكعكة هائلة من الأرباح، عن المشاركة فى شركات تنمية عقارية تحقق ربحا معقولا وتساهم فى تنمية اقتصاديات الدولة وتراعى الأبعاد الاجتماعية للفقراء فى مصر، هؤلاء الذين لا يرون فى البورصة سوى المضاربة، فيتلاعبون بها عاطفيا، تصعد إذا اطمأنوا إلى الربح الوفير، وتهوى إذا تملكتهم نذر الخوف فى يوم ممطر، أو مع شائعة ساذجة لا ظل لها من الحقيقة.

نبيل البوشى وقضيته بالكامل ليست سوى برهان آخر على كل هذه المساوئ والسلبيات فى علاقة أصحاب المدخرات ورؤوس الأموال بالأنشطة الصناعية والاقتصادية والتجارية فى البلاد، وهى بكل تفاصيلها وأسرارها تمثل دليلا آخر بالغ السطوع على الفجوة بين أصحاب رؤوس الأموال وبين المسارات العلنية للتنمية الاقتصادية فى مصر.

أستأذنك فى أن نضع سويا خطوطا حمراء غليظة تحت ما سميته الآن بحالة (فقدان الثقة فى المؤسسات)، والأمر هنا يأخذنا إلى ما هو أبعد من قضية نبيل البوشى، ويجرنا إلى مناخ عام تعيشه مصر تحت هذا العنوان العريض، ففى ظنى أنه لا شىء يمثل خطرا علينا أكثر من حالة فقدان الثقة فى المؤسسات الرسمية، وفى الخطط الرسمية، وفى القرارات الرسمية، وفى التحقيقات الرسمية، وفى التقارير الرسمية، ولا أعرف إن كان هذا خطأنا نحن فى قراءتنا لما يجرى، أم لشكوكنا الدائمة فى السلطة التنفيذية، أم خطأ الحكومة ومؤسسات السلطة التنفيذية نفسها، التى تعايش حالة فقدان الثقة، وتراها من حولها فى كل شىء وفى أى شىء، دون أن تتخذ فعلا لمقاومتها أو لإعادة بناء علاقتها بالناس.

اسمح لى أن أوضح مقصدى هنا بشكل أكثر دقة وبأمثلة شارحة:
أنت ينبغى أن تتساءل مثلا، ما السبب فى شيوع مناخ من عدم الثقة فى تحقيقات الشرطة التى قادت إلى قاتل ابنة ليلى غفران وصديقتها، بعضنا يصدق المتهم حين يقسم أنه لم يقترف الجريمة، ويفقد الثقة فى تحقيقات الشرطة، وما تلاها من تحقيقات،لا لسبب إلا لأنه يشعر بالريب تجاه الموقف الرسمى من القضية، لماذا؟ وما السبب؟ وما مصلحة الشرطة هنا فى التلفيق؟ لا إجابة، سوى أن بعضنا تنقطع بينه وبين المؤسسات الرسمية أحبال الثقة، فيهوى إلى المؤامرة، ويتصور أن أطرافا خفية تلاعبت بالملف، لصالح جهات مجهولة، ومن ثم نصدق الجانى الذى خضع لتحقيقات قضائية قادته إلى ساحة القضاء، ونرفض، بلا منطق، كل ما تقوله المؤسسات الرسمية فى هذا الصدد.

وبعضنا أيضا يفقد الثقة فى جهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار التابع لوزارة الصناعة، بعد التقرير الذى أصدره ببراءة أحمد عز من تهمة الاحتكار، الخبراء والصحفيون والبرلمانيون الذين صفقوا للجهاز ورئيسته منى ياسين، بعد إحالة مصنعى الأسمنت إلى المحاكمة، هم أنفسهم الذين شككوا فى الجهاز واتهموه بالتلاعب وحقروا من خبرائه أملا فى إدانة عز، وكأن الأرقام والتحقيقات خضعت لمؤامرة، وكأن الجهاز الذى فتح القضية طوعا وبلا إكراه قد تعرض للضغوط، ثم وصلنا مجددا إلى حالة من عدم الثقة فى الجميع، الجهاز ورئيسته ورشيد والحكومة وكل شىء، ثم إن سألت نفسك: لماذا فقدنا هذه الثقة؟ لا تجد تبريرا حقيقيا، ليس سوى الشعور العام بأن هناك مؤامرة، والإحساس الساكن فى أعماقنا بأن الحكومة تكذب وتتآمر، فى حين أن مصنعى الأسمنت ليسوا أقل سخاء من أحمد عز فى دعم الحكومة أو الحزب الوطنى، فما الداعى لأن تعاقب الحكومة أصدقاءها فى الأسمنت، وتجامل آخرين فى الحديد؟ النتيجة أنه لا إجابة عن ذلك سوى الخضوع للحالة المرضية نفسها وهى (فقدان الثقة فى المؤسسات) دائما وأبدا.

لا أزعم هنا أننى أمتلك حق الحكم بالبراءة على أحمد عز، أو حق إدانة قاتل هبة ونادين، لكننى أقرأ واقعا يكشف عن فقدان ثقة طاغ وقاس وخطر بين السلطة التنفيذية ومؤسساتها من جهة، وبين قطاعات عريضة من الناس من جهة أخرى، فقدان للثقة يمكن أن يؤدى بالنخبة من أصحاب المدخرات إلى تفضيل المغامرين فى البورصة عن المؤسسات المصرفية العامة، وفقدان ثقة يؤدى بنواب البرلمان والصحافة إلى تكذيب التقارير الرسمية، حتى إن خرجت بالأرقام والحقائق، وفقدان ثقة يقود قطاعات من الرأى العام إلى اتهام الشرطة بالمؤامرة فى جريمة قتل عادية ومكررة ولا ظلال لها فى عالم السياسة والإنصات إلى متهم لم يحكم له القضاء بالبراءة بعد.

هذه الأمثلة والقصص جميعها لا تعنينى إلا فى كونها ترصد هذا المرض الاجتماعى والسياسى فى مصر، فالقصص ليست مهمة فى ذاتها بل فيما تتضمنه من تأكيد هذا الداء الذى نعايشه من فقدان الثقة فى المؤسسات بشكل عام.

لا يجوز لنا أن نتهم الناس جميعا بأنهم على خطأ، وأنهم يتحملون وحدهم مسئولية هذه الحالة من فقدان المصداقية فى المؤسسات الرسمية، ولا يمكن أيضا اتهام المؤسسات الرسمية، بأنها تدمن الكذب على الدوام مما قادنا إلى هذه الحالة، فالمؤسسات تخطئ أحيانا، والناس قد ينخدعون أحيانا أخرى، والأهم هنا ليس البحث عن طرف نعلق عليه صك الإدانة، بل البحث عن مخرج لإعادة بناء الثقة بين المؤسسات والناس، بين الدولة والجماهير، بين الوزارات والرأى العام، بين الحكومة والشعب، بين الشرطة وقراء صفحات الحوادث أو الصحف المعارضة والمستقلة، نحن فى حاجة إلى مناخ جديد حتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود فى كل القضايا، والسلطة تتحمل المسئولية عن ذلك أولا وأخيرا، الحكومة عليها إدراك هذه الحالة والاعتراف بها، ثم عليها أيضا أن تبحث عن حل يستعيد ما فقده الناس من مصداقية.

السلطة تخسر حين تستمر هذه الحالة طويلا، تخسر لأن النخبة من أصحاب الأموال يحرمون الاقتصاد الوطنى من مدخراتهم، وتخسر لأن الجموع من الجماهير لا تصدق بياناتها الرسمية، وبالتالى لا تتعاطف مع مشروعاتها القومية أو خططها العامة، الدولة تخسر كثيرا إن استمرت هذه الحالة، والحل ليس عندى أو عند الناس، بل عند أهل القرار والحل والعقد فى جهاز الدولة.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة