طالب الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، الحزب الوطنى الحاكم بالبحث عن شرعية للحكم بديلاً لشرعية ثورة يوليو وشرعية أكتوبر 1973. استند هيكل، على مدار عدة حلقات متتابعة من برنامجه الشهير "مع هيكل" على قناة الجزيرة إلى أن شرعية يوليو قد انتهت بموت عبد الناصر وتوجه السادات فى سياسته الداخلية والخارجية إلى طرق مخالفة لتلك التى شقتها وعبّدتها ثورة يوليو، كما استند إلى أن شرعية أكتوبر قد انتهت هى الأخرى بعد زيارة السادات لإسرائيل وإبرام معاهدة كامب ديفيد وهرولة الدول العربية تالياً إلى التطبيع مع إسرائيل اقتداء بالسلام المصرى.
من زاوية ما، فإن كلام الأستاذ هيكل يبدو لامع المنطق، وله حجته الواضحة، لكنه من زاوية أخرى قد ينطبق عليه قول الشاعر: "أدركت شيئاً وغابت عنك أشياء"، فإذا كان الحزب الوطنى الحاكم يستند إلى شرعية تبدو سلفية بعيدة عن اللحظة الحاضرة التى تنوء بقضاياها ومشكلاتها التى تقتضى التفكير فى آليات جديدة للتعامل معها، فإنه أى الحزب الوطنى، ليس وحده الذى يستند إلى شرعية سلفية، ولننظر مثلاً إلى حزب الوفد الجديد الممثل الأعرق لليبرالية فى مصر، سنجد أن شعاره المدفوع هو نفسه شعار الزعيم سعد زغلول "الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة"، وأن الزخم الذى يستند إليه فى التوجه للشارع والناخبين لا يخرج عن مآثر حزب الوفد القديم، فى صراعه ضد الاحتلال الإنجليزى، وسعيه إلى الاستقلال الوطنى.
فى الانتخابات الرئاسية التى جرت فى عام 2005، قدم د.نعمان جمعة مرشح الحزب الوطنى ورئيسه آنذاك برنامجه الانتخابى للجماهير من الباب الملكى للسلفية، عندما قال "الوفد ضمير الأمة وهو الابن الشرعى لثورة 1919، وهى الثورة الأم التى ألهمت كل الانتفاضات والحركات الشعبية التى قامت من أجل الحرية وحقوق الإنسان والوحدة الوطنية وحماية الطبقات الكادحة والمحرومة من أبناء هذا الشعب وحتى ثورة الضباط الأحرار 1952 هى امتداد للثورة الأم التى فجرها الشعب المصرى سنة 1919".
هذه كانت كلمات د.نعمان جمعة التى أراد أن ينافس بها على الرئاسة، ولم يجد أفضل من شرعية سلفه الحزبى الصالح، كما لم يجد أى غضاضة فى سحبه إنجازات سعد زغلول كالغطاء على لحظتنا الحاضرة بكل ما فيها من تعقيدات وقضايا.
ما ينطبق على حزب الوفد الجديد، ينطبق تماماً على حزب التجمع وعلى الحزب العربى الناصرى، فالأول ظل حتى وقت قريب يدور حول المواقف المبدئية لزعيمه الكبير خالد محيى الدين تجاه سعى ضابط ثورة يوليو الانفراد بالحكم ورفضهم العودة لثكنات الجيش بعد تخليص البلاد من الحكم الملكى. ولا ننكر قطعاً نزاهة الزعيم خالد محيى الدين، ونحيى فيه إصراره على مبادئه، لكن حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى، ظل لسنوات طويلة بمعزل عن صعود الأحزاب الاشتراكية الكاسح فى ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، وبعيدا عن ثورة لاهوت التحرير فى أمريكا الجنوبية وعن تأصيل الفكر الاشتراكى الجديد الذى غير من وجه أمريكا اللاتينية ومنحها شرعية عصرية جديدة، بينما حزبنا المصرى ذا الراية الاشتراكية يعيش فى جلباب زعميه الكبير، وتالياً فى جاكت رئيسه د.رفعت السعيد ولا عزاء للحالمين بفكرة العدالة الاجتماعية التى جاءت بها الاشتراكية أو لمتابعى تطور الفكر الاشتراكى على كوكب الأرض.
الحزب العربى الناصرى يضع شعاراً على جريدته الرسمية من كلمات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر "الخائفون لا يصنعون الحرية والمترددون لن تقوى أيديهم المرتعشة على البناء"، وهو شعار نبيل دال لكنه أصبح مثله مثل شعار "الإسلام هو الحل" جملة ينقصها التطبيق المستند على تفسيرات من واقعنا وقضايانا المسلحة بعيداً عن الذكريات، سواء كانت هذه الذكريات من 50 سنة أو من ألف سنة، فالمنطق السلفى الحاكم هو هو، والحنين للزعيم هو هو، سواء كان هذا الزعيم جمال عبد الناصر أو سعد زغلول أو حتى صلاح الدين، ولو نظرنا حولنا سنجد أن كثيراً من الكتاب، ولا أقول عموم الناس يناشدون صلاح الدين الأيوبى النهوض من قبره والعودة لحل أزماتنا، وصدقوا أنفسهم حتى تبدو عيونهم لا تنظر إلا إلى الخلف، خاصة عندما تشتد الأزمات مع العدو الإسرائيلى.
هل يمكن أن ينهض صلاح الدين من قبره ويحمل عنا أزماتنا المعقدة التى صنعناها بغفلتنا وسوء تصرفنا؟ هل يستطيع صلاح الدين أن يضع خارطة الطريق للتطبيع العربى العربى ويقدم روشتة العلاج لمرضى التأمين الصحى وطوابير المعاناة فى معهد الأورام وفى حجرات الغسيل الكلوى؟ هل سيحل صلاح الدين مشكلة طوابير الخبز وطوابير أنابيب البتوجاز واختلاط مياه الصرف الصحى بمياه الشرب فى الدلتا؟
ما فات الأستاذ هيكل فى حديثه عن ضرورة بحث الحزب الوطنى الحاكم عن شرعية جديدة، أن مجتمعنا بأسره مجتمع سلفى يعيش وتحت جلده جلباب جده السابع، وليس جلباب أبيه فقط، مجتمع رأسه للخلف طوال الوقت ولا ينظر أمامه ولا حتى تحت قدميه، قضايا الثأر فى الصعيد هى هى نفس القضايا منذ 50 عاماً ومنذ مائة عام، مجالسنا العرفية تكاد تحل محل مواد الدستور والقانون وجهازنا القضائى الشامل. علام تشير هذه الأعراض؟ تشير بوضوح إلى هذا النزوع السلفى فى مجتمع يرفض أفراده أن يخلعوا عنهم جلابيب آبائهم، يتمسك البدوى فيهم بـ "لحس البشعة"، ويتمسك الصعيدى فيهم بالثأر وحيازة السلاح، بل إنه قد يبيع فداناً حتى يشترى الآلى، وحتى لا يعيره الآخرون بأنه لا يملك سلاحاً.
حكى لى أحد الزملاء، كيف ذهب وأسرته إلى قريب تزوج حديثاً للتهنئة بالزواج، وبينما هم جالسون فى حجرة الصالون، خرجت عليهم العروس تحمل واجب الضيافة كما تجرى العادة فى الصعيد، ووضعت الصينية على الترابيزة بابتسامة خجولة، وسط سلامات الأهل ودعوات الأقرباء، وإذا بالعريس يصفع عروسه الجميلة على وجهها دون سابق إنذار، وهرولت العروس إلى حجرتها باكية، وخلفها سيدات العائلة يسألنها ماذا حدث، فكانت الإجابة "لا أعرف، لم أفعل شيئاً"، وسارع الرجال إلى العريس: ماذا فعلت عروسك لتصفعها هكذا أمام ضيوفك؟ فكانت الإجابة الغريبة: "حتى تعرف من الراجل ومين الست فى البيت".
هذا المواطن صاحب المعيار السلفى للرجولة، هو نفسه الذى يهتف فى المظاهرات مطالباً بعودة صلاح الدين، وهو الذى يتبنى الشعارات المفرطة فى عموميتها من قبيل "الإسلام هو الحل"، وهو الذى يحل مشاكله فى المجالس العرفية، متجاهلاً أن القانون يمكن أن ينصفه، ويرى الغرب كله عدواً بما فيه من دول مثلل سويسرا وبلجيكا لم تلحق بنا أى أذى ولم تعلن عداءها لنا.
هذا الشاب نفسه باعتباره نموذجاً دالاً على مجتمعنا السلفى هو ما غاب عن فكر الأستاذ هيكل عندما قصر ضرورة البحث عن الشرعية الجديدة على الحزب الحاكم من دون سائر الأحزاب التى تحتاج لمثل هذه الشرعية، ودون أن يشير إلى مجتمعنا السلفى المأزوم الذى يحتاج أن يحدد لنفسه شرعية وجود جديدة: هل هو مجتمع من القرون الوسطى على غرار مجتمع طالبان، أم هو مجتمع ينشد دولة عصرية مدنية على غرار النموذج الأوروبى، هل نتفق على المؤسسات المعنية بالتعامل مع قضايانا وحل مشاكلنا، والفصل فى خلافاتنا، مثل أى مجتمع عصرى، أم نسخر طاقاتنا وخيالنا فى البحث عن المنقذ والبطل مثل المجتمعات البدائية التى لم تعد موجودة إلا فى الحواديت وخارج التاريخ؟
نحن مجتمع سلفى بامتياز، نعم، لابد أن نعترف لأنفسنا حتى نوقف حالة السير أثناء النوم التى نعيش داخلها، لكن يقظتنا من هذه السلفية المدمرة مرهونة بقدرتنا على الاجتهاد والابتكار فى كافة المجالات، وأولها الاجتهاد فى وضع شرعية جديدة لمجتمعنا يمكننا بها دخول التاريخ الذى أخرجنا أنفسنا منه.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة