غريب أن يحدث ما حدث فى فلسطين الآن ولا نسمع صوتا للغناء والموسيقى، الأصوات التى نسمعها هى أصوات الخلاف والانقسام العربى، وهى أصوات قبيحة لم يخفف من وقعها إلا اللحن الذى سمعته مصادفة من إحدى الإذاعات العربية، وهو لحن قديم لعبدالوهاب كأنه وضعه لهذه الأيام، وكأن الشاعر على محمود طه يعيش معنا أيضا هذه المحنة، أخى جاوز الظالمون المدى، فحق الجهاد وحق الفدا.
هذه الأغنية تدعو لمقاومة المعتدين، لكنها تدعو أيضا للتسامح وتدين التعصب، أخى قم إلى قبلة المشرقين لنحمى الكنيسة والمسجدا! كلمات تثير الحمية وتستدعى صور التاريخ، وتجمع بين جو النشيد وجو القصيدة، وهذه هى الخطة التى سار عليها عبدالوهاب فى تلحينه لهذه الكلمات، لم يندفع فى استخدام الأنغام الحماسية التى تثير العواطف البسيطة العابرة، كما هو المعهود فى الأناشيد الوطنية السهلة التى تعتمد على الإيقاعات الصاخبة والآلات المستخدمة فى المارشات العسكرية، ولكنه كان يريد لأغنيته البقاء، فقدم لحناً هادئاً يخاطب الروح والجسد، ويجمع بين التأمل والتحريض.
بدلاً من الأنغام الزاعقة والإيقاعات الصاخبة استخدم عبدالوهاب من المقامات والإيقاعات ما يعبر عن الحزن والأسف، ويثير الشعور بالانتماء ويدفع النفوس إلى التضحية.
وقد استخدم عبدالوهاب الطبقة المتوسطة فى صوته بإتقان شديد وعذوبة مؤثرة، وفى ذلك الوقت كان عبدالوهاب يقترب من الخمسين فأصبح يعتمد اعتماداً أساسياً على هذه الطبقة المتوسطة بعد أن فقد طبقاته العليا.
أما المقامات التى اعتمد عليها فى هذا اللحن فهى البياتى، والصبا، والراست، وهى مقامات عربية أصيلة نسمعها دائماً فى أغانى المهد وأغانى الحزن والفرح، ومن الأذان ترتيل القرآن الكريم.
أراد عبدالوهاب أن يذكر الجمهور بعروبته، ويستدعى ذكريات الطفولة والمجد الغابر، وأراد أن يستنهض الهمم ويقول: إن الدفاع عن فلسطين أمانة فى أعناقنا وإنها فرض دينى، وواجب وطنى وإنسانى، ولهذا اختار هذه المقامات واستخدمها ببراعة وصدق من أول نغمة فى اللحن إلى آخر نغمة: فى المقدمة وفى تقسيم الجمل الشعرية، وفى اللوازم، متنقلاً من العرض الهادئ فى بداية اللحن إلى التحريض إلى استثارة الشعور الدينى بإيقاعات مستمدة من إيقاعات الذكر وأناشيد الصوفية والأذان والتراتيل الكنسية، وكل هذا ليذكرنا بأحزاننا الدفينة، ومآسينا الجديدة، ويعيد إلينا صور الماضى، ويستدعى وجوه الآباء والأجداد، ونحن نحس فى هذا اللحن أن عبدالوهاب نفسه يسترجع ذكريات صباه، ويخاطب روح والده الذى كان مؤذناً فى مسجد الإمام الشعرانى، وهى روح الموسيقى العربية وروح فلسطين.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة