لا شك عندى فى أن جمال مبارك قد يدرك هذه الفجوة بين النظرية والتطبيق، وليسمح لى بتقديم بعض الأمثلة الداعمة لهذه النتيجة، ولنبدأ بمشروع صكوك القطاع العام مثلا، وربما يجوز لى أن أفترض أن مشروعا بهذا الحجم وبهذا التأثير لابد وأن يعرض على أمانة السياسات وعلى المجلس الأعلى للسياسات، لكن ما نشعره يقينا بأن هذا المشروع لم يتم تمريره تفصيلا على المجلس، والدليل على ذلك هو ذلك القدر من الاختلاف داخل الحزب الوطنى نفسه حول تفاصيل المشروع.
لا أظنك قد تخالفنى الرأى إن قلت لك إننى أؤمن بقوة أنه لا ينبغى على أحدنا أن يحقر عمل الآخر التزاما بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تحقرن من المعروف شيئا) هكذا أؤمن، وبهذه الروح أتهيأ لعرض رؤيتى النقدية فى عمل المجلس الأعلى للسياسات الذى يعمل تحت مظلة الحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم، هذا المجلس الذى يقترب موعد انعقاد واحدة من أهم جلساته بعد الأزمة المالية العالمية خلال الأيام القليلة المقبلة.
فالحزب اجتهد فى صياغة مفاهيم جديدة لهيكله البنيوى الداخلى، ولا أشك لحظة واحدة فى أن هذا من المعروف الذى (لا ينبغى تحقيره)، لكنه بلا شك من المعروف الذى يجوز نقده وتستحب ملاحقته بالأسئلة، كما أنه من المعروف الذى يصنف نقده من الحلال (شرعا وقانونا)، أن نعاتبه على التقصير ونلومه على ما لا نفهمه وما لا نقبله مما لا يتطابق معنا من سياسات، أو ما يخرج عنه من أفكار يتنكر لها الواقع، أو يتمرد عليها أهل الحزب الحاكم أنفسهم.
المجلس الأعلى للسياسات فضيلة من فضائل أمين السياسات بالحزب السيد جمال مبارك، و(معروف) غير قابل للتحقير عملا بقول رسول الله أولا، وإيمانا بأهمية وجود سلة واسعة من الأفكار والمقترحات والسياسات ينتفع بها الحزب وتستسقى منها الحكومة وتنعكس رخاء على البلد، لكن المجلس الأعلى للسياسات، يبقى فى ظنى، أسيرا لأطروحات (مثالية طوباوية) أحيانا، أو أفكارا (مادية غارقة فى المصالح) أحيانا أخرى، ومن ثم فإن ما يخرج عن المجلس وما تقرره أمانة السياسات تعثر كثيرا وبصورة متكررة مع الواقع السياسى والتنفيذى فى البلد.
لا أظن أن رجلا من عقلاء الحزب يمكن أن يعتبر ما أقوله هنا (نقدا مهينا) أو (تحقيرا للمعروف الوطنى) الذى بادر إليه الإصلاحيون داخل الحزب الحاكم، ولكنه نتيجة نقدية تبتغى تبصير المجلس وأعضائه وأمين السياسات بما هو كائن بالفعل من وجهة نظر أطراف مستقلة لا حاجة لها فى شىء سوى إحداث نقلة نوعية حقيقية فى الأداء السياسى والتنفيذى فى مصر.
فأمانة السياسات -حسب توصيفها الفعلى ضمن أوراق الحزب الوطنى- تتولى دراسة مقترحات السياسات العامة ومشروعات القوانين التى تحال إليها من الأمانة العامة بناء على اقتراح المؤتمر العام أو السنوى للحزب أو أى مستوى تنظيمى آخر وفقا لأساليب العمل، وتقوم الأمانة برئاسة جمال مبارك بإصدار توصيات للعرض على المؤتمر العام أو السنوى، أما المجلس الأعلى للسياسات فهو (يتبع أمانة السياسات ويرأسه أمينها العام ويتكون من عدد من أعضاء الحزب لا يتجاوز المائتين من مختلف المجالات والتخصصات، ويصدر بتعيين أعضاء المجلس قرار من الأمانة العامة بناء على عرض أمين السياسات، ويتولى المجلس دراسة الموضوعات المحالة إلى أمانة السياسات وإصدار التوصيات بشأنها، وللمجلس فى سبيل ذلك أن يحيل تلك الموضوعات إلى لجان سياسات متخصصة لدراسة جوانبها الفنية، وتتكون كل لجنة من لجان السياسات المتخصصة من عدد من أعضاء الحزب لا يتجاوز المائة يصدر باختيارهم قرار من هيئة مكتب الأمانة العامة بناء على ترشيح أمين السياسات، ويعاد تشكيل تلك اللجان وتحديد موضوعات وأطر عملها دوريا بما يتفق وأولويات عمل الحزب).
هذه هى التعريفات الرسمية لعمل الأمانة والمجلس الأعلى للسياسات واللجان التابعة لهما، ولو أننا تأملنا قليلا فى الناتج من هذا العمل المؤسسى الدقيق فسندرك أن كثيرا مما يطرحه المجلس أو تتولاه الأمانة لا يتحرك بالصياغة الرشيدة حينما يخرج من دائرة (النظرية والنقاشات والأفكار العامة) إلى ساحات التنفيذ الفعلى والمؤسسى فى دوائر الحكومة وبين أروقة الأجهزة التنفيذية.
لا شك عندى فى أن جمال مبارك قد يدرك هذه الفجوة بين النظرية والتطبيق، وليسمح لى بتقديم بعض الأمثلة الداعمة لهذه النتيجة، ولنبدأ بمشروع صكوك القطاع العام مثلا، وربما يجوز لى أن أفترض أن مشروعا بهذا الحجم وبهذا التأثير لابد وأن يعرض على أمانة السياسات وعلى المجلس الأعلى للسياسات، لكن ما نشعره يقينا بأن هذا المشروع لم يتم تمريره تفصيلا على المجلس، والدليل على ذلك هو ذلك القدر من الاختلاف داخل الحزب الوطنى نفسه حول تفاصيل المشروع، فلن تجد قيادة واحدة داخل الحزب تتقاسم فهما واحدا لفكرة الصكوك، بل على العكس بدت الخلافات ظاهرة وفجة بين نواب الوطنى فى مجلسى الشعب والشورى لدى تعليقهم على المشروع، وبدا لى أن الوزير محمود محيى الدين يقف وحيدا فى ميدان عرض الفكرة وطرق تنفيذها، فيما لا يدعمه وزير واحد فى الحكومة، أو كاتب واحد من كتبة الحكومة، أو رئيس لجنة فى الشعب أو الشورى من أعضاء الهيئة البرلمانية للحزب، وكثير منهم من أعضاء مجلس السياسات.
السؤال يتفجر هنا: هل ناقش المجلس الأعلى هذه الفكرة؟ وإن كان قد ناقشها فلماذا لم تدعمها مرحلة تمهيد فكرى وإعلامى من أعضاء المجلس، وإن لم تكن الفكرة قد عرضت على المجلس من الأساس، فما هو غرض وجوده أصلا إن كانت أفكار بهذا المستوى الاستراتيجى تطل علينا علنا دون تمريرها على نخبة رفيعة من عقول مصر يضمها المجلس الأعلى للسياسات؟
وما يمكن قراءته من مشهد (الصكوك) نقرؤه أيضا فى سياسات أخرى تتخبط فيها الحكومة إلى الدرجة التى نظن فيها أن أحدا لم يناقش هذه السياسات، ولم يقرأ هذه القوانين، ولم يراجع هذه الأفكار لا فى الحزب ولا فى المجلس الأعلى للسياسات ولا فى أمانة السياسات، وإلا بما تفسر هذه الاشتباكات العنيفة التى تندلع تحت قبة البرلمان بين وزراء فى الحكومة وبين أحمد عز أمين التنظيم ورئيس لجنة الخطة والموازنة فى مجلس الشعب، حول نصوص بعض القوانين، وحول سياسات التشريع فى المجلس؟
قد يبادر أحد المتحمسين من أنصار الحزب ليقول: إن (الخلافات بين قيادات الحزب دليل على احترام الآراء المختلفة تحت مظلة سياسية واحدة)، وهذا قول صحيح فى ظاهره، ولكنه فى الباطن لا يعنى شيئا سوى أن هؤلاء القادة من الوزراء والبرلمانيين لم يناقشوا هذه السياسات تحت مظلة الحزب، ولم يتفقوا على ملامح عامة فى الداخل، فالحكومة عدلت قانون المرور بخصوص المقطورات فى بضعة أشهر، رغم أن أمانة السياسات من المفترض أنها معنية بدراسة هذا القانون وعرضه على المجلس الأعلى للسياسات، ثم الاتفاق على إطار فكرى واحد يحكم هذا التشريع، فكيف اختلف كل هؤلاء الشركاء فى الأمانة والحزب حين عرض القانون على مجلس الشعب؟
الأمر هنا لا تنطبق عليه فضيلة (التعدد فى الرأى داخل الحزب) بل تتطابق معه حتما فكرة أن مشروعات القوانين والأفكار والمقترحات الكبرى لا تأخذ حقها من المناقشة داخل الحزب وأمانة السياسات والمجلس الأعلى للسياسات، أو أن كثيرا من هذه المشروعات لا يعرض على جميع أعضاء الأمانة والمجلس، الأمر الذى يسبب خللا فى الفهم والتفاعل لدى نواب الحزب بعد ذلك تحت قبة مجلس الشعب.
ثم إن كان المجلس الأعلى للسياسات يتصدى للاستراتيجيات الأساسية فى التعامل مع قضايا الدولة ومشروعات القوانين وتوجهات الحكومة، فما الذى يقودنا إلى هذا الكم الهائل من التخبط فى أداء السلطة التنفيذية؟
نحن لا نفهم مثلا كيف تواصل الحكومة تهورها فى الإقدام على مشروعات قوانين تفجر غضبا متصاعدا فى مصر لدى المحامين والأطباء والمعلمين والصحفيين والمهندسين والعمال، ثم تتراجع عن هذه المشروعات والأفكار حين يحتدم الغضب، من المفترض فى ظنى أن هذه المشروعات تناقش على مستوى المجلس الأعلى للسياسات، وهذا المجلس يضم بين صفوفه نخبة من المنتمين للمهن والقطاعات الفنية المختلفة، فما الذى يؤدى إلى هذا الاشتباك؟ وما الذى يدفع الحكومة إلى التراجع، والحزب إلى الصمت، إن كانت هذه الأفكار قد أخذت حقها فى الحوار والنقاش والتدبر تحت سقف المجلس الأعلى للسياسات وسارت فى دورة طبيعية من الدراسة داخل هيكل الحزب؟
إننى لا أفترض من عندى أن هذا هو دور أمانة السياسات ومجلسها الأعلى الموقر، ولكن هذا ما تؤكده توصيفات الحزب لدور الأمانة والمجلس، ومن ثم فإن أقصى ما نرجوه لعمل كلتا الهيئتين أن تمنح وقتا أطول ورؤية أكثر واقعية للقضايا والمشروعات محل الدراسة قبل إحالتها من الحزب إلى الحكومة، ثم من الحكومة إلى مجلس الشعب أو إلى دائرة التطبيق الفعلى، فالأمانة والمجلس (معروف لا ينبغى تحقيره)، لكنهما فى الوقت نفسه جهاز سياسى لا ينبغى أن ينعقد ترفا أو يوافق طوعا على أفكار سابقة التجهيز أو يتساهل فى مناقشة قضايا الناس، ويقينى (عملا بحسن الظن) أن كل عضو من أعضاء الأمانة والمجلس لديه من الفكر ومن الضمير ومن الإرادة ومن المشاعر الوطنية ما تجعله حريصا على أن يكون دور المجلس (اسما على مسمى) وليس ديكورا لأفكار غير واقعية أو مشروعات تتعارض مع الهم المصرى العام فى البلد، لا قدر الله.
اجتماع المجلس الأعلى للسياسات على الأبواب، حسب الجدول المقرر داخل الحزب إن لم يطرأ جديد يحول دون الاجتماع، وكل رجائى أن يتأمل جميع المشاركين وعلى رأسهم السيد جمال مبارك حصاد ما أنجزه المجلس، ومستوى الفجوة بين الأفكار والأحلام والطموحات التى تعبر عن نفسها فى الاجتماع، وبين الواقع الذى يزأر بالغضب فى كل القطاعات.
هل يعرف جمال مبارك حجم هذه الفجوة؟ وهل يعرف أعضاء هذا المجلس الأعلى الموقر مساحة الفجوة بين النظرية والتطبيق؟ إننا نتمنى أن يبادروا فى اجتماعهم المقبل إلى تحويل هذا الجهاز السياسى والفكرى إلى أداة فاعلة تسودها حرية الرأى، وتهيمن عليها الأفكار البناءة والمشروعات والمقترحات الخلاقة والسياسات الرشيدة، ليتمكن الناس من بناء جسر للثقة فى الأمانة والمجلس، وحتى لا تبقى الأفكار فى الغرف المغلقة دون صدى لها فى الواقع، أو تنطلق الأفكار من الغرف المغلقة مع عناد تنفيذى وبرلمانى وشعبى شديد القسوة على أرض الواقع.ومصر وأهلها من وراء القصد.