خصومتنا مع إيران، ليست فى مستوى ثأر الدم بيننا وبين إسرائيل، وتراشقنا مع سوريا، لا ينفى أبدا أنهم رفقة السلاح وإخوتنا فى الدم والعرض والدين والكفاح، أيا كان حجم الخصومة أو المعايرة أو الشقاق السياسى، ومن ثم إذا كان السادات قد زار الكنيست الإسرائيلى بحثا عن السلام، وذهب عرفات إلى أوسلو من أجل التسوية، وصافح العرب قادة إسرائيل فى أنابوليس، فهل نستطيع البحث عن اتفاقية سلام جديدة بين هذه الدول العربية والإسلامية الثلاث، المتصارعة على النفوذ فى المنطقة.
ليس مهما الآن التفكير إن كنت غاضبا من حسن نصرالله، أو ناقما على بشار الأسد، أو تشعر بالحذر تجاه ما تسمعه عن أطماع إيران فى النفوذ على ساحة الشرق الأوسط، المهم بالفعل أن تعرف أننا نعيش واقعا مأزوما لا رابح فيه إلا إسرائيل، إذا استمر هذا الشقاق القاسى بين القاهرة من ناحية، وطهران ودمشق وجماعات المقاومة من ناحية أخرى، وأنت وأنا لا نحب أن تعلو إسرائيل فوق رؤوسنا جميعا، أو تنتصر الدولة العبرية بهزائمنا الداخلية، ومن ثم فإنه من الحمق والتدنى والتراخى، أن ننجرف مثل كرة الثلج إلى لعبة التراشق إلى الأبد، أو نخوض نحن فى مصر صراعا وهميا وغير مبرر، للنفوذ والسيطرة مع قوى إقليمية ينبغى أن نتكامل معها لا أن نعاديها سياسيا واستراتيجيا، أو نتصور عبثا أن العدو الحقيقى هو على الضفة الشرقية من الخليج العربى فى إيران، وليس على الحدود الشرقية ( بعد الخط الواصل بين طابا ورفح ) هناك فى إسرائيل.
الدولة المصرية ترى من جانبها أن لديها مبررات الشعور بالقلق والخطر، إذ إن الماء يتسرب من بين يديها بلا سيطرة كاملة على الأوضاع، فإيران أو سوريا يمكنهما سويا أو منفردين، تعطيل مباحثات المصالحة الفلسطينية فى القاهرة، فى الوقت الذى تراهن مصر على هذه المصالحة، لإتمام مسيرة التسوية، وإيران وسوريا يشجعان اليوم على خلق كيان جديد لتمثيل الفلسطينيين، بديلا عن منظمة التحرير، وترى مصر أيضا أن إيران وسوريا تعملان على المستويات السياسية والاستخباراتية لتحقيق أهدافهما الخاصة، بزرع العقبات فى طريق المفاوضات، إيمانا منهما بأنه لا يجوز ولا يمكن أن ينعقد سلام تنفرد فيه إسرائيل بالقوة النووية المطلقة، بينما رؤوس الجميع تنحنى أمام التهديدات، أو ترتعش عند انطلاق صيحات الحرب.
النتيجة أن معادلات الصراع تتبدل فى الشرق الأوسط، فبدلا من أن تكون مصر وسوريا ومن ورائهما إيران فى معسكر واحد ضد إسرائيل، صارت إسرائيل تراقب بابتهاج وقائع الاشتباك بين الجانبين سياسيا وأمنيا واستخباراتيا على كل المستويات، والنتيجة أيضا أن الأفق لا يتضمن حلا، إن مضت الأمور على هذا النحو لفترة طويلة، نحن نتحدث اليوم عن خلاف بين فتح وحماس حول شرعية تمثل القضية، والانجرار إلى هذه المعركة بدون تفاهم القوى الكبرى المحركة للأحداث، سيؤدى إلى تعقيدات هائلة، سيدفع ثمنها الفلسطينيون والعرب جميعا، وستبقى إسرائيل هى المنتصر الوحيد.
أعود وأكرر لك، إنه ليس مهما إن كنت تنحاز إلى الموقف المصرى عاطفيا ووطنيا، أو كنت تتفهم موقف إيران وسوريا وحزب الله قوميا وعروبيا أو حتى دعائيا، لكن المهم أن المنتصر الوحيد هنا هو إسرائيل، ولا يجوز أن تكون هذه هى النهاية لهذا النضال الطويل لمصر ضد سياسات تل أبيب، ولا يجوز أيضا أن تكون الحرب على مصر، هى الوسيلة الوحيدة لسوريا وإيران فى مقاومة إسرائيل.
وفى حال كهذه، تكون فيها إسرائيل هى المنتصر الوحيد، فإن الدول الثلاث ينبغى أن تفكر فى الخروج من مأزق التراشق إلى براح التفكير، خارج هذا الصندوق المغلق، فلن يربح أحد من معايرة إيران بأنها لم تحرك جيوشها لنصرة الفلسطينيين فى غزة، أو أنها منذ اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979 لم تنتج فعلا حقيقيا نحو تحرير المقدسات الإسلامية فى الأرض المحتلة، ولن يفوز أحد بالسخرية من سوريا، بأنها لم تطلق رصاصة واحدة على القوات الإسرائيلية المرابطة فى الجولان، أو أنها تحرك أنهار الدم فى المنطقة للنجاة من المحاكمة الدولية فى جريمة اغتيال رفيق الحريرى.
وبالمثل أيضا لن يمكن لإيران أو لسوريا أن تحركا ساكنا فى الشرق الأوسط، أو أن تجرا المنطقة لأجندتهما الخاصة من دون التفاهم مع الموقف المصرى، والتراضى مع استراتيجيات إدارة الدولة فى القاهرة، ومن ثم، فإنه لا بديل لتغيير المعادلة، وحرمان إسرائيل من النصر بلا حرب، إلا بالتفاهم المشترك بين الدول الثلاث، ولا أقول هنا إننى أدعو إلى حلم ساذج، بل أدعو إلى طريقة تفكير كتلك التى أقدم عليها الرئيس السادات بعد انتصار أكتوبر عام 1973، حين قرر زيارة الكنيست متجاوزا حدود كل الأحلام والتصورات فى الشرق الأوسط، وحاسما معركته الأخيرة مع الدولة العبرية.
خصومتنا مع إيران، ليست فى مستوى ثأر الدم بيننا وبين إسرائيل، وتراشقنا مع سوريا، لا ينفى أبدا أنهم رفقة السلاح وإخوتنا فى الدم والعرض والدين والكفاح، أيا كان حجم الخصومة أو المعايرة أو الشقاق السياسى، ومن ثم إذا كان السادات قد زار الكنيست الإسرائيلى بحثا عن السلام، وذهب عرفات إلى أوسلو من أجل التسوية، وصافح العرب قادة إسرائيل فى أنابوليس، فهل نستطيع البحث عن اتفاقية سلام جديدة بين هذه الدول العربية والإسلامية الثلاث، المتصارعة على النفوذ فى المنطقة، وهل يمكن البحث عن مبادرة خلاقة ومبتكرة، كتلك التى لجأ إليها السادات لانتزاع السلام، لنصل إلى سلام سياسى واستراتيجى بين هذه القوى الاستراتيجية فى الشرق الأوسط، الرئيس (مثلا) يستطيع أن يدعو أحمدى نجاد، وبشار الأسد إلى القاهرة، ليخرج الثلاثة فى حديقة القصر الجمهورى فى مصر الجديدة، لإعلان اتفاقية سياسية جديدة (على طريقة كامب ديفيد) فى الولايات المتحدة بين مصر وإسرائيل.
قد يجزم البعض بأن القاهرة تمضى فى مشروع مختلف جذريا عن هذا الذى تسير إليه طهران، أو ذلك الذى تسعى إليه دمشق، وقد يذهب بعض الإعلاميين من أجهزة الدولة إلى الزعم بأن القاهرة تسعى إلى التفاهم مع العالم، والانفتاح على جميع القوى بالسلام والتفاهم والمفاوضات، بينما إيران تؤسس شرعيتها على الصدام مع الغرب، وفى مقدمته الولايات المتحدة وإسرائيل، وأن سوريا لا يهمها السلام بقدر ما تتطلع إلى استقرار النظام السياسى الموالى لحاشية الرئيس الأسد، ولكن فى تقديرى أن الجزم بذلك يخالف المنطق، إذ إن إيران تأمل فى الوصول إلى تهدئة مع الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن سوريا لم تتردد فى الجلوس مع إسرائيل على طاولة المفاوضات، حينما رعت تركيا هذه المباحثات، ومن ثم فإن القول بأننا أمام مشروعين متعارضين لا يمكن جمعهما فى وعاء واحد، نتيجة غير حقيقية.
ثم افترض أننا أمام مشروعين متعارضين، ما الذى يضير القاهرة، فى رأيك، أن تكون على علاقة واثقة مع إيران وسوريا، أو على تفاهم مع النظامين فى كلا البلدين فى الوقت نفسه، الذى يحتفظ كل بلد بمصالحه الخاصة أو برؤيته الذاتية للأوضاع فى المنطقة، بدلا من التقوقع والانحسار، وإعلان الحرب السياسية والإعلامية بلا جدوى، ففى السياسة لا يمكن أن تتطابق مصالح نظامين مختلفين تطابقا كاملا، فمصالح مصر غير مصالح الولايات المتحدة، ومع ذلك يدوم التفاهم بينهما، ومصالح القاهرة غير مصالح تل أبيب، ومع ذلك يدوم السلام بينهما، ومن ثم يمكن أن تكون مصالح مصر غير مصالح طهران، ومع ذلك تجرى بينهما قنوات التفاوض والتفاهم المشترك، ومن المقبول أن يكون لسوريا فهمها الخاص للصراع، أو آلياتها للدفاع عن نفسها، أو حتى عن أخطائها، بينما يدوم التواصل السياسى القائم على الاحترام المتبادل بين القاهرة ودمشق.
لاحظ هنا أن مصر تجمع الفلسطينيين جميعا على طاولة المصالحة، رغم ما بينهم من أفكار متباينة، واستراتيجيات سياسية وعسكرية متعارضة، وتأمل أن تحقق الوحدة بين الجميع، ولاحظ أيضا أن مصر هى التى نزعت فتيل الأزمة بين دمشق وتركيا خلال أزمة عبد الله جولان، وأوقفت حربا وشيكة كانت أنقرة قد استعدت لها ضد دمشق، ولاحظ أيضا أن القاهرة هى التى دعت إلى تفاهمات أوسلو، وواى ريفر، وكامب ديفيد الثانية بين عرفات والقيادات الإسرائيلية، ولاحظ أيضا أن مصر شاركت فى إطلاق المبادرة العربية للسلام من بيروت، ومن ثم فإن القاهرة تؤمن بأن الخصومات يمكن أن تتفكك على طاولة التفاوض، وأن المشروعات المتعارضة قد تتلاقى بالحوار والتفاهم.
إن هذه الدعوة لا تنتمى إلى فئة الرفاهية السياسية، أو الترف الاستراتيجى أو حتى الأحلام الناعمة والواهمة غير القابلة للتحقق، لكنها تمثل حتمية سياسية مصرية الآن، حتى لا تكون إسرائيل هى المنتصر الوحيد فى الشرق الأوسط، مصر تستطيع أن تفعل ذلك، مصر هى الأكبر والأعرق، ونظامها هو الأقل حرجا أمام شعبه، فيما يتعلق بمبادرات التسوية مع الخصوم، فقد فعلناها من قبل مع إسرائيل، ومن الأولى أن نبادر إليها مع طهران ودمشق.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة