جاء قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار أمر توقيف للرئيس السودانى عمر حسن البشير صادماً للرأى العام على الرغم من أن كل التوقعات كانت تدرك أن القرار بإيقاف الرئيس صادر لا محالة لاسيما وأن المحكمة لم ترفض مذكرة للمدعى العام من قبل، وإذا كان هناك توقع لصدور مذكرة توقيف وكان أيضا معلوم للكافة أن حصانات الرؤساء والدبلوماسيين ليس لها أدنى اعتبار أمام المحكمة الجنائية الدولية فوفقاً لنص المادة 27 من اتفاقية روما 1998 وتحت عنوان عدم الاعتداد بالصفة الرسمية تنص على «أن يطبق هذا النظام الأساسى على جميع الأشخاص بصورة متساوية دون أى تمييز بسبب الصفة الرسمية وبوجه خاص فإن الصفة الرسمية للشخص سواء كان رئيسا لدولة أو حكومة أو عضوا فى حكومة أو برلمان أو ممثلاً منتخبا» وبشكل حاسم قطعت الفقرة الثانية بأن الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التى قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص سواء كانت فى إطار قانون الدولة أو القانون الدولى لا تحول دون اختصاص المحكمة.
أقول هذا مقدماً للرد على من يثير قضية الحصانة ويشير إلى رفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية قياساً على حكم سابق للمحكمة بالاعتداد بالحصانة الدبلوماسية لمنع الملاحقة القضائية لأحد الوزراء الكونغوليين، أثناء دعوى ينظرها القضاء البلجيكى، وهنا القرار يتعلق باختصاص محكمة وطنية وبالطبع المحاكم الوطنية تلتزم بالحصانات، هذا الأمر يخرج عن نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية كما سبق الإشارة إليه ويشكل هذا القرار سابقة هى الأولى من نوعها فى الحرب ضد الحصانة بكل أنواعها كعائق أمام تحقيق العدالة الجنائية الدولية لهؤلاء الذين يرتكبون جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وهم متحصنون بالحصانات الرسمية.
أولا: أدلة الثبوت وتوجيه الاتهام
لم يكن قرار المحكمة الجنائية الدولية لتوقيف الرئيس البشير ليصدر لو لم يكن هناك من الأدلة ما يؤكد للمحكمة أنها أمام جرائم كبرى شبه مؤكدة, فقد اتخذ مجلس الأمن قراراً رقم 1564 لسنة 2004 وطالب من الأمين العام إنشاء لجنة تحقيق دولية تضطلع فوراً بالتحقيق فى التقارير المتعلقة بانتهاكات القانون الدولى لحقوق الإنسان وتحديد الأطراف المتورطة وفى أكتوبر 2004 عين الأمين العام اللجنة برئاسة انطونيو كاسيسيه وعضوية عدد من الشخصيات الدولية ومنهم كان الأستاذ محمد فائق وزير الإعلام والخارجية الأسبق لمصر.
وتمكنت اللجنة من الدخول إلى السودان للتحقيق فى الوقائع التى حدثت فى دارفور فى الفترة من فبراير 2003 إلى يناير 2005 تلاحظ أن اللجنة انتقلت بنفسها وحققت الوقائع والتقت بالشهود وجمعت الوثائق من الميدان وانتهت اللجنة إلى الاستخلاصات الآتية:
أولا: أن هناك أشخاصا مشردين داخليا فى دارفور يبلغ عددهم 1.65 مليون شخص وأكثر من 200.000 ألف لاجئ من دارفور فى تشاد المجاورة.
ثانيا: حدث دمار واسع النطاق للقرى فى جميع أرجاء ولايات دارفور الثلاث وقد تبين للجنة أن قوات الحكومة والميليشيات شنت هوجما عشوائيا شملت قتل المدنيين والتعذيب والاختفاء القسرى وتدمير القرى والاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسى والنهب والتشريد القسرى فى جميع أرجاء دارفور وقد نفذت هذه الأعمال على نطاق واسع وبصورة منهجية وبالتالى قد تشكل جرائم ضد الإنسانية، وانتهت اللجنة إلى إثبات جرائم ضد الإنسانية لكنها لم تستطع التأكد من وجود جرائم إبادة جماعية سواء كانت كاملة أو جزئية.
وحدد المتهمين فى حوالى 51 شخصا من الحكومة السودانية والميليشيات التابعة لها (الجنجويد) وكذلك وجهت اللجنة الاتهامات إلى عدد من قادة المتمردين وأصدرت المحكمة قرارا بإيقاف اثنين من الحكومة وهما أحمد هارون وزير سابق وعلى كوشيب أحد قادة الجنجويد. ثم صدر قرار المدعى العام ضد الرئيس البشير وأيضا صدور قرار آخر بتوقيف ثلاث من قادة المتمردين.
ثانيا: تحديد هوية مرتكبى الجرائم
انتهت اللجنة إلى مسئولية أفراد مسئولين فى حكومة السودان وأعضاء فى قوات الميليشيا وأعضاء من قوات المتمردين وبعض ضباط جيوش أجانب كل بصفتهم الشخصية.
المهم هنا أن نوضح أن القرار هنا للمحكمة صادر من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع بمعنى أنه أعتبر أن أحداث دارفور تهديد للسلم والأمن الدوليين لاسيما وأن القتلى قد بلغوا أكثر من 35 ألف قتيل ومائتى ألف مشرد غير اللاجئين الذين بلغوا أكثر من مليون ونصف وبالتالى فالقرار الصادر من مجلس الأمن ملزم للسودان وكل الأطراف بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية فحتى البلدان العربية غير المصدقة على اتقافية روما 1998 بشأن المحكمة الجنائية الدولية لا يمكنها التحلل من التزاماتها الدولية.
ثالثا: الآثار المترتبة على قرار المحكمة بتوقيف الرئيس
المجتمع الدولى عندما اتفق على تحقيق العدالة الجنائية ومحاربة الإفلات من العقاب كان يهدف بالأساس إلى تحقيق ما يمكن أن نسميه بالردع العام أى أن تكون هناك رسالة لكل من يرتكب جرائم وحشية أنه لن يفلت من العقاب وأيضا حتى لو كانوا يتمتعون بحصانات قضائية دبلوماسية استنادا إلى قانون داخلى أو اتفاقية دولية.
وفى الحقيقة لو كان القضاء السوادنى قام بمسئولياته فى محاسبة المسئولين عن هذه الجرائم واستنادا إلى قاعدة تكاملية القضاء الوطنى مع القضاء الدولى لكان الوضع الآن أقرب للوصول إلى حل سلمى للنزاع وتحقيق العدالة وتعويض الضحايا وملاحقة مجرمى الحرب ومرتكبى الجرائم ضد الإنسانية.
لقد أثبت التاريخ أن محاسبة كبار المسئولين السياسيين على مسئوليتهم الجنائية من شأنها أن تساهم بطريقة فعالة فى إرساء وتعزيز السلام والاستقرار على سبيل المثال ساهمت كل من محاكمة شارلز تيلور وسلودفان مليوسفيتش الرؤساء السابقين لليبريا ورئيس جمهورية يوغسلافيا فى كشف الملابسات عن الجرائم الجماعية التى ارتكبت فى هاتين الدولتين وعن دور الرجلين فى التخطيط لهذه الجرائم وإشعال الصراع فى الدولتين.
وأعتقد أن المحاكمة لمرتكبى جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية فى دارفور لكل المسئولين من الطرفين سوف تؤدى لنفس النتيجة التى تحققت فى ليبريا ويوغسلافيا السابقة مما يحمى الأمن القومى السودانى والمصرى على السواء، أما نظرية المؤامرة التى ظهرت فى الأفق مثل أن هناك صراعا على الثروات فى دارفور فهذا فى الحقيقة محاولة من المسئولين عن هذه الجرائم للإفلات من العقاب.
الخلاصة
أنه لا بديل للدول العربية أو الأفريقية إلا التعاون مع المحكمة حتى الحكومة السودانية يجب عليها أن تتعامل مع المحكمة وأن تطعن على القرار أمام الهيئة الابتدائية عملا بنص المادة 19 الخاصة بالدفع بعدم المقبولية أو الدفع بعدم اختصاص المحكمة وفقا لنص المادة 58 المهم التعامل مع آليات المحكمة وليس تحديها أو فى العمل وفقا لنص المادة 16 التى تؤجل أمر التوقيف لمدة عام المهم ألا تتجاهل السودان أو الدول العربية المحكمة ولكن الاشتباك معها. وسوف يظل يوم 4 مارس 2009 يوم تاريخى فى سقوط حصانة الرؤساء أمام العدالة الجنائية الدولية بصدور أمر ضبط وإحضار رئيس جمهورية.
لمعلوماتك...
◄1.65 مليون شخص تقريباً مشردون داخل دارفور
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة