كلما أصابه الفلس وحاصرته الديون.. وبات ليلته حزيناً.. سهر حتى الصباح ومع إشراقة الشمس يغادر القرية متجها إلى الحقول المحيطة بها حيث مقام سيدى الشيخ «اليتيم».. مبنى قديم متهالك يتوسطه بناء يرتفع عن الأرض بحوالى متر واحد.. ويكسوه الحرير الأخضر، القرية كلها تؤمن لسنوات طويلة أنه ضريح أحد أولياء الله الصالحين.. إلا صديقى كانت له علاقة مختلفة مع أضرحة الأولياء كنا نذهب إليها لنوقد الشموع وهو يتسلل اليها لأسباب أخرى..
يقف أمام مقام سيدى اليتيم لوقت طويل حتى يختفى الفلاحون داخل حقولهم ويتيقن أن أحداً لا يراه.. يفتح الباب بكل احترام ويبدأ فى طلب السلفة بصوت مسموع وبأدب شديد يشابه أدب حوار الدول الفقيرة مع البنك الدولى.. محمود يقول «سامحنى يامولانا أنا فى احتياج لصندوق النذور أكثر منك.. أنت يأتى إليك الناس فى خشوع يطلبون البركة منك.. أما أنا فيلاحقنى الدّيانة» بكلمات قاسية كلما التقيتهم ولو صدفة فى الطريق العام.. وأمى ترفض إقراضى فهى ترانى مبذرا.. لكنها تهرول إليك كل خميس تحمل معها الشموع والنقود.. عفواً يا مولانا..
ويبدأ محمود فى كسر صندوق النذور ليقترض منه بضعة جنيهات كانت تكفى ليعود من الطريق الرئيسى للقرية فكل ديونه لاتزيد عن ثلاثة جنيهات لمحل البقالة الوحيد بالقرية الذى يبيعه السجائر «على النوتة»..وربما استلف نصف جنيه من قريب ميسور.. محمود يعود سعيداً كل يوم.. لكنه فى طريق العودة كان لابد أن يذهب فى زيارة لا تتغير.. يخلع ملابسه كما ولدته أمه ويعبر ترعة كبيرة وهو يرفع ملابسه بإحدى يديه ويسبح بالأخرى.. فعلى مسافة كيلو متر واحد يوجد مقام سيدى الشيخ منصور.. لكن الشيخ منصور يختلف عن زميله.. فكثير من أهالى القرية يؤمنون على مضض بكراماته وأكبر تبرع يصل إليه فى صندوق نذوره لا يزيد عن دستة شمع من النوع الردىء.. أو نصف لتر من الكيروسين فى زجاجة قديمة لإنارة المصابيح ليلاً..
محمود واثق دائما من عدم وجود ما يساوى معاناة الطريق.. التى تشبه سباقات الخماسى الحديث فخلالها يعدو ويسبح ويمشى.. لكنه لا ينافس فى الرماية.. فهو لا يعرف إطلاق الرصاص.. لكن محمود يوجه كلمات لاذعة لسيدى الشيخ منصور.. ويعايره بفقره أمام جاره اليتيم..
محمود هذا قابلته منذ أيام فى عزاء بالقرية وجدته من الأثرياء والنافذين وقد تبدل حاله.. عندما تلاقت أعيننا ابتسم لأنه متأكد من أننى لم انس مغامراته مع الأولياء.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة