زرت السودان مرات عديدة، لكن هذه المرة كانت مختلفة.. فرئيس البلاد صادر بحقه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية، وأنظار العالم تتجه نحو السودان تتابع وتنتظر ما ستنتهى إليه هذه الحالة الفريدة.. الشعب السودانى يحبس أنفاسه فى صبر وهو يتابع جولات الصراع بين البشير وأوكامبو.. حركة السفر من وإلى السودان عادية.. مطار الخرطوم يستقبل ويودع رحلاته اليومية بصورة تلقائية.. طائرة الرئيس لا تتوقف عن السفر من أسمرا إلى القاهرة ومن طرابلس إلى أديس أبابا ثم الدوحة.. البشير قبل التحدى وضرب بفتوى عدم مشاركته فى قمة الدوحة عرض الحائط، ووصل إلى قطر ملوحا للجميع بعصاه الشهيرة.. الرجل يريد أن يبعث الطمأنينة فى نفوس شعبه المترقب بحذر لما تخفيه له الأيام.
صورة البشير المعلقة على زجاج سيارات السودانيين الخلفى ملفتة.. هذا التقليد جديد على شعب يتميز بالتواضع والبساطة فقد اعتادوا على لقاء رئيسهم فى سرادقات العزاء والمناسبات الاجتماعية، لكن الظرف الاستثنائى الحالى دفعهم لتقليد باقى العرب.. فأصبحت صورة البشير تصدمك فى كل مكان، بدءا من صالة الوصول بالمطار وانتهاء بمقاهى وسط العاصمة المتواضعة.
لا استقرار منذ الاستقلال، هذا شعار يؤمن به أغلب السودانيين الذين يعتبرون أن حكم الإنقاذ بزعامة البشير كان أملهم فى كسر هذه القاعدة التى ألفوها طوال أكثر من نصف قرن.. فتجربة الإنقاذ تعد الأوفر حظا مقارنة بباقى التجارب السياسية السابقة.. فى تلك السنوات نجح النظام فى جنى ثمار تدفق النفط، ووضع حد لأطول حرب أهلية بين الشمال والجنوب.
أغلب الناس فى السودان يشاركون البشير الرأى بأن الغرب يمارس أقصى الضغوط على بلادهم، وأنهم يدفعون ثمن صراعات إقليمية ودولية ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، وأن الولايات المتحدة وإسرائيل تخفيان نوايا استعمارية تجاههم، وما أوكامبو سوى "عميل" ينفذ سياسة من يوفرون له رواتب بالملايين.
الجميع هنا مقتنع بأن التنازلات هى مفتاح سحرى لحل الأزمة مع الولايات المتحدة.. وينتظرون بشوق إلى سماع خبر تسويتها فى أسرع وقت، وأن يتركهم العالم وشأنهم يحصدون نتائج سنوات العمل الشاق فى هدوء. المسافة من المطار إلى وسط العاصمة لا تستغرق سوى 30 دقيقة.. على طول الطريق ملامح واضحة للتحولات العمرانية ومظاهر استثمارية مصرية ودولية، بدأت تعلن عن نفسها بعد غياب طويل.
السودانيون تعودوا على تناول أطباق الكشرى المصرى الشهيرة.. محلات الأطعمة الجاهزة تتنافس على افتتاح أفرع لها فى الخرطوم للاستفادة من الطفرة الاقتصادية وما تبعها من تحسن سعر العملة.. أهم ما يلفت الأنظار تلك الجسور الجديدة التى يعبر عليها السودانيون لأول مرة بعد انتهاء مراسم افتتاحها.. فالخرطوم تشبه القاهرة التى يشقها النيل إلى قسمين بينما النيلين الأبيض والأزرق يقسمان الخرطوم إلى قسمين أيضا، بعد أن بقى الانتقال من الخرطوم إلى أم درمان رهنا بنقص وعجز الجسور القديمة التى تربط بينهما.
الوجود الصينى فى السودان طاغ، تلمسه فى الأحياء الكبيرة والمطاعم، والمقاهى والأسواق وتجلى أخيرا فى بناء الجسور والسدود ومحطات استخراج البترول وتنقية المياه وتوليد الكهرباء.. رغم كل هذا النفوذ الاقتصادى إلا أن موقف الصين فى أزمة البشير لم يرق إلى طموحات الشعب ولا القيادة، حيث ربط الجميع آمالا عريضة على تدخلهم بقوة فى حسم الصراع مع الغرب ووضع حد للتلاعب الأمريكى الغربى بورقة دارفور.
مع أن الوضع السياسى السودانى ينذر بخطر محقق إلا أن الخرطوم تنعم بالهدوء الذى نفتقده فى القاهرة والناس تمارس حياتها بشكل عادى، بل إن أغلبهم ينظر بسخرية لسيناريوهات الفوضى التى يتوقعها البعض.. هؤلاء يرون أن بلدهم شبع مؤامرات وانقلابات حتى أصبح لديه حصانة ضد العودة للوراء بعد أن أطاحت تلك المغامرات بفرص انتقال بلادهم من طابور الفقر والتخلف إلى واقع جديد اشتاقوا إليه طويلا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة