وائل السمرى

مجذوب

الخميس، 05 مارس 2009 11:11 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كانت الساعة تحبوا باتجاه الخامسة صباحا، الصقيع يكسو الوجوه كقناع لاصق ثقيل، الكوفيات والشيلان على الرؤوس تخفى معظم وجوه الواقفين على الرصيف، السائقون والكمسارية ينتظرون الأتوبيس الذى سيوصلهم للجراج، اصطفوا متبادلين الضحكات والنكات والتريقات المعتادة، من حين لآخر يخرج أحدهم يديه من جيبه ليحكها ببعضها ويضعها على وجهه مسرعا قبل أن يتلاشى دفئها الذى هرب بالفعل مخلفا ذكرى لدفء على الأكف المجمدة، الجميع يتأفف من البرد ممنيا نفسه بأى مكان مغلق ليستره من الريح السموم، إلا هو، يقف شامخا متحديا قسوة الشتاء، وساخرا من هؤلاء البشريين الذين يتألمون من درجات الحرارة التى أصبحت أقل من معدلاتها، متقمصا دور الممثل المحترف الذى يؤدى عمله فى أقصى الظروف وفى أحلك الأوقات، المارة هم المتفرجون، والأسفلت هو مسرحه الواسع الرحب، ممثل قدير لا يتأثر بضحكات المشاهدين ولا بسخريتهم، ولا حتى بإشاداتهم.

سبعة أيام لا أكثر هى عمر ذقنه التى يختلط فيها اللونان الأبيض والأسود، لولا بياض بعض هذه الشعيرات ما لاحظ أحد وجهه المدهون بالسواد، أما شعره فمن شدة الاتساخ بدا كما لو كان أسود كالحا، وقف فى عرض الشارع واضعا كلتا يديه على بطنه كمن يصلى، وأطال والوقوف، وحينما مر اثنان غير عابئين به ولا بتصرفاته، مضى خلفها ويديه على حالتهما، وحينما شعر بأنهما سيسحبانه من مسرحه الملىء بالجماهير، افتعل شجارا معهما، وعلى أثره تركهما غير مكترث بهما، رجع إلى مكانه ومنه انطلق إلى حافة الرصيف المقابل، وبلا أية مقدمات مدد جسمه على آخره متشنجا، من يراه يحسبه قتيلا من قتلى طرق الليل التى تغيرى السيارات ببلوغ أقصى سرعة، تشنجه المتقن يوحى بأنه مصاب للتو، حتى من رآه منذ البداية شك فى أمره، وساءل نفسه أحقيقى هذا أم افتعال؟

سرعان ما مل من تمثيل هذا الدور، مقررا استبداله بآخر، فعاد إلى دور المصلى مرة أخرى، غير أنه فى هذه المرة، استبدل السجود بالوقوف، سجد على الأسفلت وأطال، ثم ثبت رأسه على الأرض، ودار بجسمه دورة كاملة، كمن يبحث عن القبلة، ثم وقف واضعا يديه فى وسطه، والملل من استحسان المتفرجين وصل منه إلى مداه، نحو الرصيف تقدم، وبجانبى وقف، أخرج من سيالة جلبابه الذى كان ذات يوم أبيض بضعة عملات فضية، اختار منها "ربع جنيه مخروم" وأمسكه بأصبعيه ثم جعل من سبابته وإبهامه دائرة وضع العملة فيها، ونظر من خرمها الضيق، إلام ينظر؟ .. لا أحد يعرف، وددت لو أسأله، وتراجعت، فكرت أن أقلده وأخرج من جيبى ربع جنيه مخروم لأنظر من خلاله إلى العالم، متمتما كيف فاتتنى هذه التجربة.

لسان حاله يقول "أنى أرى ما ترون ولكنى أبصر ما لا تبصرون" حرك منظاره المصطنع باتجاه اليمين، وحينما تتبعت زاوية نظره، وجدته يتربص بكلب أسود يمشى متبخترا تياها، فور استنتاجى هذا هرع وراء الكلب، الذى جرى أمامه بأقصى سرعة مصدرا صوتا أشبه بالعويل، ولما اطمئن من ابتعاده عن منطقة نفوذه، عاد ليقف بجانبى مرة أخرى، سألنى سيجارة فأعطيته، ثم أمرنى بإشعالها فأجبته، تلهفه لدخان السيجارة جعله لا يجيد إشعالها، ما جعله يمتصها امتصاصا لتأخذ النار مجراها فى سيجارته المشتهاة، عينان حمراوان كعينى الذئب وملامح منهزمة أسيرة، يرتدى جلبابا كان ذات يوم أبيض، ومن تحته شبح بلوفر صوفى، قدمان حافيتان، إلا من الكعبين اللذين تدثرا بجزء من قماش بنطاله الجينز، وحينما اطمأن وهدأت أنفاسه، مضى ليسند ظهره على الحائط، وقبل أن ينهى سيجارته، أشار نحوى وقال: أنا عايز الواد ده يكون أحسن واحد، أصرفوله خمس تلاف جنيه فورا، وبأى عملة، بسرعة أوام.. وسكت ليأخذ آخر أنفاس السيجارة، وبعد أن ألقى العقب، وقف على الرصيف كمن يستعد لخطبة عصماء، تقدم خطوتين ناحية الواقفين ثم قال: من شبرا الخيمة للعسال وسعد باشا عملوله تمثال، ثم كررها باستهزاء واضح قائلا: من شبرا الخيمة للعسااااااااال، وسعد باشا .... عملوله تمثال!ّ سعد سعد يحيا سعد.. سعد سعد يحيا سعد، ثم التقط أنفاسه من خطبته القصيرة المجهدة، ورفع رأسه باتجاه السماء قائلا: يا رب بقالى ثمانية وعشرين سنة متجوزتش، عايز أتجوز بقى، ثم قال: آآآآآآآه، بغنج قالها، آآآآآآآآه، بجدية قالها، آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه بمرارة قالها.... فانصرفت.








مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة