خالد صلاح

أرجوك أن تترك تقرير الخارجية الأمريكية جانبا، ولا تتورط فى الرد على البيت الأبيض

الاستبداد تحت حماية القانون

الجمعة، 06 مارس 2009 12:47 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
الاستبداد قائم هنا حتما، وحرية التعبير غائبة بكل يقين، لكن المشكلة الأخطر فى مصر أن هذا الاستبداد لا يستند إلى قرارات سياسية تتخذها السلطة بشكل مؤقت أو لظروف استثنائية بقدر ما يستند إلى منظومة تراكمية من القوانين والتشريعات التى تعزز الوضعية الديكتاتورية لصناع القرار فى كل المواقع فوق جثة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترام الرأى والرأى الآخر وفق قواعد الدولة المدنية.

أرجوك لا تندهش إن قلت لك إنه برغم كل الخدمات السياسية المتبادلة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية لا أجد خدمة أعظم وأهم من هذه الهدية السياسية والإعلامية الغالية التى تقدمها وزارة الخارجية الأمريكية للقاهرة سنويا تحت عنوان (تقرير حقوق الإنسان) الذى ينتقد أوضاع الحريات والديمقراطية ويعرى الاستبداد السياسى والديكتاتورية والبطش الأمنى فى مصر.

أنت وأنا نتابع جدلا كبيرا الآن حول هذا التقرير الصادر فى شهر فبراير، هو نفسه ذلك الجدل الصاخب الذى عشناه سويا فى التقارير السابقة، الأمريكيون يصدرون التقرير والخارجية المصرية ترد والحزب الوطنى ينتفض غضبا والبرلمانيون من أعضاء الحزب يهاجمون أمريكا، وصحف الدولة تسخر من الازدواجية الأمريكية وتبدأ حملة معايرة البيت الأبيض بسجن أبوغريب ومعتقل جوانتانامو ردا على (الوقاحة الأمريكية)، و(الابتزاز الأمريكى) ضد النظام فى مصر.

أقسم لك، وأنا فى كامل قواى العقلية، أنه رغم كل هذا الغضب والاشتباك الساخن على السطح فإن السلطات فى القاهرة تنعم بصدور هذا التقرير وتهلل له فرحا رغم كل ما يكشفه من عورات الأداء السياسى والأمنى فى البلاد، ومرة أخرى أرجوك ألا تندهش من هذه النتيجة لأن هؤلاء القائمين على صناعة القرار فى بلادنا يدركون حتما أن الطريقة الأسهل للطعن فى مصداقية أى عمل سياسى أو حقوقى هو أن تنسبه على الفور إلى (المؤامرة الخارجية) أو (العمالة للولايات المتحدة) أو (خدمة مصالح الغرب على حساب المصلحة الوطنية) أو (الإساءة لسمعة مصر)، ومن ثم فإن كل الأسماء الواردة فى تقرير الخارجية الأمريكية من هؤلاء الذين تعرضوا للظلم والملاحقة وانتهاك حقوق الإنسان سيكونون فريسة سهلة للصيد الإعلامى القبيح من صحافة الدولة، كما أن أجهزة الدعاية البشرية الموالية للسلطة ستنتفض للمزايدة على التقرير زاعمة أن مصر تدفع ثمن (مواقفها النضالية فى غزة!!)، أو (استقلال قرارها السياسى!!).

التقرير إذن فرصة ذهبية للسلطة لكى تخرج لسانها لمن يتعرضون للانتهاكات، ولمنظمات حقوق الإنسان، وللمضربين والمنتفضين والمتظاهرين والمحتجين من كل الفئات الذين سيتحولون على الفور إلى (خونة يسيئون إلى سمعة مصر)، ويصرخون طلبا للمساعدة من أمريكا، هذه الاتهامات السخيفة الرخيصة التى تدمنها الأنظمة السياسية فى بلدان العالم الثالث جميعا وعلى رأسها بلادنا بكل تأكيد، فهل توجد خدمة سياسية وإعلامية أكبر من ذلك؟ وهل يمكن أن تدعم الولايات المتحدة نظاما حليفا لها فى المنطقة بمنحة أهم من إلصاق تهمة الخيانة بخصومه السياسيين؟!

إننى أرجو من الولايات المتحدة إن أرادت دعم حقوق الإنسان بالفعل أن تمارس ذلك سرا بينها وبين الحكومة المصرية لا أن تنقل ذلك إلى العلن، وأرجوك أنت مرة أخرى أن تترك تقرير الخارجية الأمريكية جانبا، ولنأخذ مسافة إلى الوراء بعيدا عن الحرب العلنية السنوية، لا تتورط فى الرد على البيت الأبيض أو الدفاع عن سمعة البلد إن كنت من مؤيدى الحكومة، ولا تتورط أيضا فى الدفاع عن تقرير وتأكيد صحة جميع المعلومات الواردة فى صفحاته، إن كنت من النشطاء الحقوقيين أو من ضحايا البطش الرسمى، وتعال نقرأ نحن بأنفسنا واقع الحريات فى مصر.

نحن لا نحتاج إلى دليل فى الصحراء، أو إلى بوصلة بحرية، أو إلى كاميرات فضائية تعمل بالأقمار الصناعية لنكتشف مساحة القيود على حرية الرأى والتعبير وحقوق الإنسان فى مصر، والسلطة تخطئ إن ظنت أن رفع السقف السياسى الممنوح للصحافة المكتوبة يمكن أن يشكل دليلا للدفاع عن موقفها فى هذه القضية، فالحريات الصحفية ليست سوى جانب محدود من المعنى الأشمل لمصطلح (حرية الرأى والتعبير)، ففى بلد لا يجوز فيه لحزب سياسى أن يخرج إلى النور إلا بعد تصريح من لجنة برئاسة الحزب الحاكم، لا قيمة فيه لحرية الرأى والتعبير.

أنت لا تحتاج إلى تقرير الخارجية الأمريكية لتدرك ذلك، ففى بلد عريق بحجم مصر تتعطل فيه مشروعات حزبية واعدة مثل الوسط والكرامة لأسباب أمنية وسياسية وأحيانا شخصية، لا يجوز التشدق بحرية الرأى والتعبير.

وفى بلد عريق كبلدنا يحاكم فيه المدنيون أمام القضاء العسكرى ويحرم فيه المواطنون أيا كانت انتماءاتهم السياسية من المثول أمام قضاء مدنى فلا يجوز فيه الحديث عن حرية الرأى والتعبير.

وفى بلد خصب بأفكاره وشبابه كبلدنا تلاحق فيه أجهزة الأمن المدونين على شبكة الإنترنت، وتطاردهم بإرهاب الأمن والمحاكمات، لا يجوز فيه لأحد أن يتكلم عن حرية الرأى والتعبير. فى بلد تصدر فيه وثيقة للبث الفضائى لتضع مقصلة فوق الألسنة، ويحاكم فيه رؤساء تحرير الصحف باتهامات سياسية، وترتكز فى تشريعاته العقوبات السالبة للحرية فى قضايا النشر، وتراقب فيه وزارة الداخلية مقاهى الإنترنت، وتخضع فيه الجمعيات الأهلية والنقابات المهنية لتشريعات مجحفة، وتجرم فيه التجمعات الجماهيرية إلا بإذن من الأجهزة الأمنية، ويطوق فيه الحرس أسوار الجامعات، ويعيش فيه أكثر من خمسة آلاف معتقل داخل السجون بلا محاكمة، لا يمكن مطلقا أن نتحدث فيه عن حرية الرأى والتعبير.

لا حاجة بنا إذن إلى تقرير الخارجية الأمريكية لنكتشف حقيقة هى أكثر سطوعا من الشمس، ولا مصلحة لأحد أن يشتبك حول التقرير وأسبابه السياسية لأن هذا الاشتباك ليس سوى أمنية للسلطة لتنحرف بالقضية عن مسارها الأصلى، فبدلا من أن نناقش مضمون التقرير ومعلوماته، نسقط فى التراشق بالعمالة والتخوين.

الاستبداد قائم هنا حتما، وحرية التعبير غائبة بكل يقين، لكن المشكلة الأخطر فى مصر أن هذا الاستبداد لا يستند إلى قرارات سياسية تتخذها السلطة بشكل مؤقت أو لظروف استثنائية بقدر ما يستند إلى منظومة تراكمية من القوانين والتشريعات التى تعزز الوضعية الديكتاتورية لصناع القرار فى كل المواقع فوق جثة حقوق الإنسان والحريات الأساسية واحترام الرأى والرأى الآخر وفق قواعد الدولة المدنية.

المعنى هنا أن الاستبداد يتحرك (أوتوماتيكيا) مستندا إلى تراث تشريعى ظالم ومجحف ومعاد للحرية، فوزير الداخلية، أى وزير داخلية فى أى وقت، لا يحتاج إلى التجرؤ على القانون أو مخالفة التشريع، ولا يحتاج إلى التمتع بشخصية ديكتاتورية لكى يمارس الاستبداد، لأن الاستبداد قائم بالأساس فى القوانين والتشريعات التى تتعامل بها السلطة مع الناس، ومن ثم فإن المواجهة مع وزارة الداخلية وحدها تعد حربا منقوصة ولا طائل من ورائها لأن الداخلية فى النهاية تنفذ ما ينص عليه القانون!!

هنا بالتحديد أصل الخلل فى مصر.. إن الباطل والظلم والإجحاف والتسلط والتفرد بالحكم وكل القيم السلبية فى السياسة مدعومة بتشريعات ولوائح وتراث فقهى وقانونى لا يساعد على تحريك عجلة الديمقراطية أو الإفراج عن حرية الرأى والتعبير بمعناها الأسمى والأقوم والأعم.

مصر ليست حبيسة نظام واحد بعينه، أو وزير داخلية محدد، أو سلطة مستبدة فى فترة طارئة، لكن مصر حبيسة تراثها التشريعى العتيق المتوارث عبر سنوات ممتدة من عمر الاستبداد، هذا التراث الذى يجعل من حذاء جندى الأمن المركزى رمزا للدولة، ومن حرمان السياسيين من العمل الحزبى علامة على هيبة السلطة، ومن قمع المظاهرات ومطاردة المحتجين دليلا على استقرار الأمن العام.

التشريع هو أصل الخلل، ومن ثم فإنه لا معنى لأى عمل نضالى فى المجال الحقوقى بدون استراتيجية لتفكيك هذه المنظومة التشريعية الراكدة التى تزداد ظلما منذ العصر الملكى ومرورا بثورة يوليو وحتى اليوم، لا معنى لأن يقتصر الحراك السياسى على معارضة الأفراد فى مواقعهم المختلفة داخل الجهاز الحكومى والسلطة التنفيذية، كأن يعتبر المتظاهرون أن وزير الداخلية هو الخصم الحقيقى، أو يعتبر المضربون أن رئيس الوزراء هو العدو الأول، فهؤلاء أشخاص مؤقتون فى ظروف مؤقتة، أما الخصم الأول والأهم والأخطر فهو التشريع والقانون، هذا التراث الخانق الأحمق الذى فصله الملكيون على الملك، والثوريون على قائد الثورة الأعظم، والمؤمنون على الرئيس المؤمن، ثم شربناه نحن فى النهاية، بئس الشراب وبئس المصير.

حين يكون الاستبداد (باطلا يحميه القانون) فلا يمكن البحث عن ضوء فى نهاية النفق، أو أمل فى التغيير، أو رؤية استراتيجية للإصلاح، نحن نحتاج أولا إلى بيئة تشريعية جديدة، ولكى نخلق هذه البيئة التشريعية الجديدة لابد لنا من برلمان جديد، ومن أعضاء جدد فى مجلس الشعب، ولكى نصل إلى برلمان جديد لابد لنا من انتخابات نزيهة وشريفة تتنافس فيها جميع التيارات تحت مظلة وطنية، ولكى تكون لدينا انتخابات نزيهة فلابد أن تكون قوانين الانتخابات نزيهة وقواعد الانتخابات نزيهة وقوانين الممارسة السياسية نزيهة وعادلة ومتوزانة!!! وها نحن نعود مرة أخرى إلى التشريع!!
ألم أقل لك من قبل.. بئس الشراب وبئس المصير.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة