فى ليلة من ليالى بداية الربيع، جلست أتجول سماعياً بين كلمات أغنيات قديمة احتفظت بها على جهاز الكمبيوتر، هى كلمات أحب الاستماع إليها عندما يزيد منسوب الحاضر داخلى عن الماضى فتعيد لى توازنى لكى أكمل البقية من حياتى المفروضة، هى كلمات مستلقية هائمة فى وجدان معظم أبناء جيلى المنكوب بعشق العشق وحب الشجن وتطويع الألم.
زمان امتزجت أغنيات حب الوطن وعشق المحبوبة وحنين الأهل فى إطار واحد من الصدق والتدفق، المشاعر جزء من منظومة الحياة، فكان العنف فى حب الوطن والدفاع عنه قريناً للرومانسية فى عشق المحبوبة، وكانت المحبوبة دافعاً لحب الوطن, والأمومة حافزاً للتضحية من أجله، عاش أبناء جيلى حياة المعانى المتكاملة، وأيضاً عاشوا الجزء الأول من افتتاحية المؤامرة الكبرى التى حولت المسيرة الإنسانية زاهية الألوان إلى هرولة باهته يتوالى خلالها البشر كتروس صماء مدفوعة فى طريقها بفعل قوة خفية، وهم فاقدون لأى إحساس متعة أو ألم.
وبكل ما تبقى لى من ذكريات الزمن الجميل، أصرخ مبحوحاً قائلاً إنها مؤامرة مع سبق الإصرار والترصد، فليس من قبيل المصادفة أن تتحول كلمات أغانى العشق من "يا فؤادى لا تسل أين الهوى كان صرحاً من خيالٍ فهوى" إلى "كوز المحبة اتخرم وبحبك يا حمار"، ليس من قبيل المصادفة أن تتحول لوحات الأناشيد الوطنية وحب الوطن من "وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها جاها نهار معرفش يدفع مهرها, ويا بيوت السويس يابيوت مدينتى" إلى "كفر مصيلحة أدب ومصالحة"، ليس من قبيل المصادفة أن ينتقل فن السينما من أفلام "العصفور وعودة الابن الضال وبداية ونهاية" إلى "عيب يا توتو ياتوتو عيب وتجيبها كده تجيلها كده أهى هى كده"، ليس من المصادفة أن يتحول رجال الدين ورموزه من الدعوة لوحدة الوطن إلى الفتاوى المسطحة للعقول مثل عدم جواز نقل القلب من متوفى إلى مريض، لأن القلب محل الإيمان، واعتبار إهداء الورد للمريض إشراك بالله وتحريم عقد إيجار المساكن الممتد استجابة للضغوط الخارجية بتحرير العقود الإيجارية فى مصر تمهيداً لهجمات جديدة من التغلل الأجنبى. ليس من قبيل المصادفة أن تتحول لغة الدعوة الدينية من الحث على الجهاد ضد المحتل الذى ما زال يهدد البلاد ومن لغة التسامح إلى التكفير ولغة الإرهاب.
ليس من المصادفة أن يتخلص المفكرون والأدباء من مصابيح الفكر ليحملوا بدلاً منها كلمات التملق لحاكم ظالم. ليس من المصادفة أن يتحول الساسة والمعارضون من قيادة فئات الأمة تجاه الحرية والكرامة إلى حلفاء ومبرراتية للمغتصب ليخلقوا مظلة محكمة للظلم والاستعباد يُدفن أسفلها ملايين المستغلين المقهورين.
ليس مصادفة أن تتحول الصحافة من ضمير للأمة إلى سلطة رابعة فى ذيل ثلاث سلطات تسبقها.
تفهمت الآن كلمات الراحل نجيب سرور "يا زمانى لو سدى كان عذابى .. فليكن موتى عقاباً للزمان"، لم يكن سرور محبطاً عندما قال هذه الكلمات بل كان ثورياً متمرداً رافضاً لحياته أن تصبح وقوداً لزمن التردى وصعود المسخ، فحرمهم منها واختار الموت وانتصر.