سيقول البسطاء من الناس إن الغارات القاسية التى شنتها هيئة الرقابة الإدارية على الوزارات الأسبوع الماضى وكشفت عن وقائع رشوة وفساد بين الدائرة العليا من كبار مساعدى وزيرى الإسكان والسياحة تمثل عنوانا على نزاهة الحكومة وتأكيدا لعدم التستر على الفاسدين أيا كانت مواقعهم الإدارية، وستقول الحكومة لهؤلاء البسطاء من الناس إنها هى التى سمحت للرقابة الإدارية بأن تفتش وتدقق فى الوقائع والتفاصيل حتى سقط الجناة داخل مكاتبهم الوثيرة وهم يقتاتون هم وأولادهم حراما خالصا، فيما يطعمون الناس من فوق عروش مناصبهم الرفيعة ذلا وهوانا وضياعا للحقوق فى سبيل الثروة.
الوزراء لم يعلموا شيئا قبل أن تنطلق غارات الرقابة الإدارية، بل فعلها جنود هذه الهيئة الرفيعة بجدية واحتراف حفاظا على المال العام، وصونا للعدالة، وربما لو بلغ هؤلاء الوزراء نبأ الغارات من قبل لاسترحموا هيئة الرقابة الإدارية فى الستر صونا للعرض والسمعة، أو ربما استمهلوا الرقباء على المال العام فى مزيد من الوقت وقدر من الحكمة السياسية للتخلص من القيادات الفاسدة قبل أن يعرف الناس فضائح ما يجرى فى هذه الدائرة العليا لصناعة القرار فى الوزارات المصرية.
لا أميل إلى تأكيد هذا الاحتمال لكن وقائع ما جرى فى أسبوع واحد تطرح سؤالا أهم عن حجم المسئولية السياسية لهؤلاء الوزراء الذين جرت عمليات الرشوة فى وزاراتهم عما اقترفته أيدى معاونيهم من فساد؟
هل الوزراء أبرياء تماما من الناحية السياسية مما يجرى فى وزاراتهم من خلل وفساد ورشوة وتربح؟ وإن لم يكن باستطاعتهم، بالتأكيد، ضبط كل صغيرة وكبيرة فى عالم صغار الموظفين، فما هى مسئوليتهم السياسية عن فساد أصحاب المناصب الرفيعة الذين يتولون المسئولية لكونهم الأقرب والأخلص لهؤلاء الوزراء أنفسهم، مثلما الحال فى واقعة الرشوة فى وزارة الإسكان؟ إذ كان الجانى هنا من الدائرة الأقرب للوزير أحمد المغربى وتولى موقع نائب رئيس هيئة المجتمعات العمرانية. أغلب الظن أن المسئولية السياسية واقعة لا محالة فى مثل هذه النماذج، فالوزير يجب أن يتحمل سياسيا ما يقترفه الطاقم المعاون له من مخالفات، فإن كان الوزير قد اختار معاونيه وفريقه فى القيادة فهو بلا شك مدين باعتذار على الأقل على سوء الاختيار، ومرغم على تفسير سبب الإبقاء على رجل تعاطى الفساد جهرا حتى أوقعته هيئة الرقابة الإدارية على هذا النحو المهين.
على أن إدانة هؤلاء المرتشين جنائيا، أو إدانة الوزراء سياسيا لا تكفى وحدها لمحاصرة ظاهرة الفساد فى الإدارة الحكومية، كما أن غارات هيئة الرقابة الإدارية لا يمكن بمفردها أن تضبط الإيقاع وتحاصر جميع المذنبين، وتؤدى إلى عرقلة عجلة الفساد الهائلة فى مختلف المؤسسات، أو وقف منظومة الرشوة مترامية الأطراف التى تبدأ من بعض صغار الموظفين وتنتهى عند رأس هرم المسئولية فى السلطة التنفيذية، فكل ما يتم الإعلان عنه هنا يتضاءل كثيرا أمام حجم ما يجرى فعليا على الأرض، وكل النشاط الذى تقوم به الأجهزة الرقابية المختلفة يؤدى إلى ضبط أقل من %20 من إجمالى عدد حالات الرشوة الحقيقية فى الجهاز الحكومى، فى أعظم التقديرات تفاؤلا، والمعنى أن المسئولية السياسية للوزراء، المشار إليها هنا، لا تقتصر فقط على الحالات التى يتم ضبطها فعليا، بل تمتد إلى الحالات التى لا يتم ضبطها على الإطلاق، فالآليات التى يعمل بها الجهاز الإدارى للحكومة، والطريقة التى يتم بها اختيار الوزراء لمعاونيهم، أو التى يدير بها الوزراء إيقاع العمل اليومى داخل الوزارة هى (أصل ظواهر الفساد والرشوة) واسمح لى أن أقدم تفسيرا بسيطا من وجهة نظرى لهذا الواقع.
فجريمة الرشوة أو التربح أو الإهدار لا تقع بمحض الصدفة أو بفعل القضاء والقدر، لكنها تقع حين تتوافر حالة من الضعف الإدارى والرقابى الداخلى فى الوزارات أو الهيئات، وتقع أيضا حين تتجمع سلطة اتخاذ القرار فى يد شخص واحد فقط دون غيره، وتقع حين يكون الشخص المنوط باتخاذ القرار من المقربين للوزراء فيطغى الخوف على من دونه من الموظفين فى الهيكل الإدارى فيصير كل ما يأمر به مطاعا، وكل ما يقرره حقا لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه.
الفساد هنا هو نتاج آلة العمل العملاقة التى تعتمد ذوى القربى والإخلاص فى دائرة القرار، والفساد هنا فى مركزية اتخاذ القرار، والفساد فى الافتقار إلى المتابعة الداخلية الدقيقة، والفساد هنا أيضا فى التفاوت الهائل بين الرواتب داخل الوزارة الواحدة والهيئة الواحدة بل وبين ذوى المناصب الواحدة، والفساد هنا غياب القواعد واللوائح القانونية التى يتساوى أمامها الجميع فيكون لمن يدفع أكثر فرصة لكى يصل أسرع إلى حقوقه، أو إلى مغانمه داخل كل وزارة.
نحن فى حاجة إلى إعادة تعريف مصطلح الفساد مجددا، تعريفا يفسر لنا المنابع والمنطلقات، لا يقدم لنا الضحايا والجناة فقط ليحتلوا مكانة بارزة على صفحات الحوادث، الراشى والمرتشى هنا ليسوا سوى الحلقة الأخيرة فى سلسلة بالغة التعقيد من الظروف الإدارية والروتينية والسياسية والشللية تقود إلى هذه النتيجة، الراشى والمرتشى هنا هما نهاية القصة وليسا بدايتها، الراشى والمرتشى هنا هما النبت الأسود الذى يطل فى أرض خصبة لنمو هذه الظواهر الفاسدة، الفساد ليس قضاء وقدرا، وليس حالات فردية محدودة تصطادها الرقابة الإدارية، بل هو فقدان للقواعد والتنظيم، وتصعيد لمن لا يستحق، وتقريب لذوى القربى، وتغييب للمعايير وللمتابعة والمساواة.
الفاسدون فى الجهاز الحكومى إما موظفون صغار محبطون من ضياع الحقوق فقرروا اقتسام الكعكة، حراما، على جثة البلد، أو أنهم مقربون، حراما أيضا، ملأتهم الثقة بأنفسهم لكونهم فوق القانون واللوائح فظنوا أنه لا رقيب ولا حسيب، أو تصوروا أنها أموالهم وأموال آبائهم، فأداروها كما تأمرهم أهواؤهم الرخيصة، ها هنا تحديدا منابع الفساد، ومن ثم فإننى أؤكد حتما مسئولية الوزراء سياسيا عن هذه المنظومة الفاسدة ومسئوليتهم أدبيا عن هذه الجرائم التى تجرى على أبواب مكاتبهم ومن أخلص خلصائهم.
لو كان العدل قائما، ولو كان التصعيد الوظيفى وتولى المواقع الإدارية العليا نزيها، ولو كانت القربى من الوزراء على أساس العمل والخبرات، ولو كانت المساواة فى الأجور أساسا بين العاملين، ما وقع الفساد صغيره أو كبيره.
لو كان القانون هنا من البداية ما غيبه الناس فى ضمائرهم عند تلقى الرشوة.
جريمة مَن هذه سياسيا سوى الوزراء أنفسهم؟!!
خالد صلاح
هل الوزراء الذين جرت عمليات الرشوة فى وزاراتهم أبرياء من المسئولية السياسية عن اختيار قيادات مرتشية فى دائرة صناعة القرار؟
نحو تفسير جديد لمصطلح (الفساد)
الخميس، 02 أبريل 2009 10:28 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة