صداع فى رأس الإدارة المصرية اسمه الأقليات، لكن لا أحد يسأل عن المتسبب فى هذا الصداع قبل الإسراع بتقديم العلاجات المسكنة له.
النوبيون غير راضيين عن أوضاعهم، ويطالبون بالمعاملة التفضيلية فى أن يعودوا إلى أقرب مكان من أراضيهم التى هُجروا منها عند إنشاء السد العالى، وإلا يرفعون أصواتهم مهددين برفع قضيتهم أمام المحاكم الدولية حتى دون أن يفصحوا "سيرفعونها ضد من؟ وأمام أى محكمة دولية تحديداً؟ وما محتوى عرائض الاتهام التى أمام المحكمة، هل سيدفعون مثلاً بأنهم جماعة عرفية ويطالبون بالحكم الذاتى جنوب أسوان، مستعيدين التاريخ الذى يرددونه عن مملكة النوبة الممتدة من جنوب مصر وشمال السودان؟"
بدو سيناء الذين عاشوا مئات السنين فى وديانهم ومضاربهم ومثلوا خط دفاع شعبى أيام احتلال سيناء، وظهر من بينهم مجاهدون فى حرب الاستنزاف وحرب 1973، ولم يتم تعويضهم أو رعايتهم الرعاية الكاملة، لكن من بينهم أيضاً من تزوج بإسرائيليات وأنجب أطفالاً، هم بحكم القانون الإسرائيلى يهود إسرائيليون، يرى الأمن المصرى خطورة تملك هؤلاء اليهود الإسرائيليون أراضٍ بسيناء، كما يرى ضرورة متابعتهم، لكنه يضع ملف بدو سيناء كله فى الواجهة، باعتباره ملفاً أمنياً، دون النظر إلى ما يحتاجه البدو فى سيناء من احتياجات تنموية، ودون مراعاة خصوصيتهم الثقافية التى تجعلهم يرفضون ويقاومون تعامل الأمن معهم بمنطق زوار الفجر، الاحتجاز والتفتيش الفجائى للبيوت، وخاصة مداهمة بيوت كبارهم، الأمر الذى يولد غضباً وعنداً لا يمكن استيعابهما بجنود الأمن المركزى.
الأقباط، شركاء الوطن، المصريون الأصلاء، حتى وإن هاجروا، الودعاء حتى وإن غضبوا، كيف تحولوا إلى الرقم الصعب فى صناعة الأقليات فى مصر، وأقول "صناعة" لأن مصر بالفعل ليست العراق بإثنياته وليست لبنان بطوائفه، وأقباط مصر هم طمى هذا النيل، دونهم يحدث النحر فى الدلتا وتبور الأراضى الزراعية، فما الذى أوصل الخلاف بين عنصرى الأمة إلى اعتبار الأقباط أقلية، وما الذى يدفع بكل خلاف بين قبطى ومسلم إلى واجهة الطائفية البغيضة؟
الشيعة المصريون، صفحة جديدة أضيفت مؤخراً إلى ملف الأقليات، مع صعود المد الإيرانى وزخم المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله للاحتلال الإسرائيلى، لكن غابت عدة أسئلة عند تسطير هذه الصفحة الساخنة فى ملف الأقليات عندنا منها: كم عدد الشيعة المصريين أصلاً؟ هل هم من محبى أل البيت أم من المسيسين الموالين للمركز فى "قم" أو حتى فى "حارة حريك"؟ هل التعامل الأمنى هو الأفضل لاحتواء هذه الصفحة، أم أن الصيغة الاجتماعية المصرية الفريدة كفيلة باحتواء كل مذهب حتى وإن اشتط وخرج عن الغالبية؟ وأين ذهبت جهود التقريب بين المذاهب التى ارتقى بها رجال مثل الشيخ محمد أبو زهرة والشيخ شلتوت؟
أعتقد أن صداع الأقليات فى الرأس المصرى هو صداع من صنع أيدينا، نتيجة فشل التعامل مع التحولات الجارية فى العالم، ونتيجة لحالة الفصام التى رافقت تحولاً اقتصادياً متطرفاً باتجاه اقتصاد السوق وعمليات الخصخصة، مع مزيد من التضييق السياسى والمركزية المدعومة بشعار "الأمن هو الحل" لكل الملفات الساخنة والمرشحة للتسخين، الأمر الذى أثبت فشله، وأصبح الصداع مزمناً ومرشحاً للتفاقم للدرجة التى هدد فيها إخواننا النوبيون بتدويل قضيتهم واستصدار قرارات أممية بحق العودة النوبى!
الأمن لم يكن ولن يكون أبداً هو الحل لمواجهة التحولات السياسية والاجتماعية أو لمواجهة آثار السياسة الاقتصادية المتطرفة التى تم تطبيقها خلال السنوات الأخيرة، نحن بحاجة للتوافق حول دولة مدنية يحظى فيها الجميع بحق المواطنة الكاملة وما تقتضيه من مساواة، لا مجال فيها للتمييز على أساس النوع أو الدين أو اللون، نحن بحاجة للتخصص فى حل قضايانا الأكثر إلحاحاً، وليس تسكينها أو تبريرها أو تجاهلها، بدءاً من أطفال الشوارع حتى الجرائم الشاذة والعنف المتفشى حالياً، وعندما يتحقق ذلك ستختفى بثور الأقليات من الوجه المصرى.