فى عام 1978 كنت أعمل مع منظمة التحرير الفلسطينية وكنت متفرغا فى الإعلام الموحد تحت قيادة المناضل والمفكر الفلسطينى الكبير الشهيد "ماجد أبو شرار"، وكنت أعمل محررا فى وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) والتى كان يرأسها الكاتب الفلسطينى "زياد عبد الفتاح" أمد الله فى عمره، وكنت أكتب مقالة أسبوعية فى مجلة (الكفاح العربى) اللبنانية التى يرأس تحريرها الصحفى الكبير "وليد الحسينى" وإشراف الكاتب المصرى الكبير "سمير كرم" الذى يعيش فى أمريكا حاليا وفوجئت بالشاعر الفلسطينى الكبير "معين بسيسو" يصطحبنى لمقابلة القائد العظيم "أبو جهاد", فى مكتب القطاع الغربى فى شارع الجامعة العربية بالفاكهانى قرب مستديرة الكولا.
وكان القطاع الغربى هو الذى يدير العمليات العسكرية داخل الأرض المحتلة وفى تواضع الكبار بدأ "أبو جهاد" يخفف عنى رهبة المقابلة فأخذ يثنى على ما أكتبه فى مجلة الكفاح العربى وعلى كل الشعب المصرى الذى يقدم الشهداء والمثقفين الكبار دفاعا عن فلسطين والعرب.
كانت هذه هى المقابلة الأولى لى مع القائد العظيم "خليل الوزير" حيث قال لى إنه نصف مصرى ونصف فلسطينى حيث قضى نصف عمره التعليمى فى الدراسة فى جامعة الإسكندرية, أما المقابلة الثانية فكانت فى يوم من أيام شهر إبريل فى نفس عام 1978 حينما اصطحبنى "زياد عبد الفتاح" معه فى سيارته الجديدة أنا والكاتب السورى الكبير "حيدر حيدر" لحضور مناورة عسكرية فى القسم الجنوبى من سهل البقاع ووادى التيم أسفل جبل الشيخ أو جبل حرمون كما يسميه الصهاينة وهو يقع فى سوريا و لبنان. يمتـد من بانياس وسهل الحولة فى الجنوب الغربى إلى وادى القرن ومجاز وادى الحرير فى الشمال الشرقى، وهو بذلك يشكل القسم الأكبر والأهم والأعلى من سلسلة جبال لبنان الشرقية التى تمتد بين سوريا ولبنان ويحـدّه من الشرق والجنوب منطقة وادى العجم وإقليم البلان وهضبة الجولان فى سوريا, وكان أبو جهاد يقف لمتابعة المناورة، وعلى ما أتذكر كان يقف إلى جانبه سفير تشيكوسلوفاكيا فى بيروت والمناضل والإعلامى الفلسطينى الكبير "نبيل عمرو" السفير الفلسطينى فى مصر حاليا والذى كان مسئولا عن إذاعة فلسطين فى هذه الأيام والكاتب الكبير "أحمد عبد الرحمن" الذى كان رئيسا لتحرير مجلة "فلسطين الثورة" وهو أمين سر السلطة الوطنية الفلسطينية حاليا.
وأشار لى القائد العظيم بأن أقترب منه فنفذت أمره فصافحنى بحرارة وأخذ يتحدث معى عن مبادرة كامب ديفيد التى سوف تكون إجهاضا لحرب أكتوبر المجيدة، ثم طلب منى أن أكتب عن المناورة العسكرية فى مجلة فلسطين الثورة عند أحمد عبد الرحمن, كان الشهيد العظيم القائد أبو جهاد هو الأول فى المناداة بالوحدة الوطنية بين كل الشعب الفلسطينى والمنظمات الفلسطينية (لم تكن منظمة حماس قد ظهرت للوجود), كان الوطن العربى كله ينقسم إلى يساريين تقودهم موسكو فى خلافاتها المذهبية داخل الحركة الشيوعية مع بكين فى الصين, ويمينيين تقودهم أمريكا بمعاونة إسرائيل وكان هذا التصنيف ينطبق على الثورة الفلسطينية ومنظماتها وقياداتها أيضا فكانت الجبهة الديمقراطية بقيادة "نايف حواتمة" الماركسى متحالفة مع موسكو فيما كانت الجبهة الشعبية بقيادة "جورج حبش" الماركسى فى خلاف مؤقت مع موسكو فيما كانت "فتح" تموج بالتيارات المتناقضة، ففى داخل "فتح" كان يوجد التيار اليسارى المتحالف مع موسكو بقيادة "أبو صالح" و"ماجد أبو شرار" و"معين بسيسو" والتيار اليسارى المتحالف مع الصين كما كان يوجد التيار اليمينى الذى كانت تدعمه المملكة العربية السعودية وكان الكاتب المصرى الكبير "عبد الرحمن الخميسي" يقول إن "فتح" مثل "الطريقة الشاذلية" تحتوى كل التيارات المتناقضة فى تآلف عجيب.
لكن أبو جهاد كان يقول دائما كونوا يساريين تبع موسكو أو بكين أو يمينيين تبع السعودية أو حتى الكويت لكن أنا سوف أبقى متوجها دائما إلى فلسطين ولا عمل لى إلا داخل الأرض المحتلة على تراب فلسطين, كان صاحب دعوة الجميع للوحدة باتجاه فلسطين مع وجود كل التباينات والتناقضات الفكرية, لم يكن يقف ضد أى فكر يسارى أو يمينى كان ولم يكن مع أى فكر يسارى أو يمينى كان بل كان دائما مع البندقية الفلسطينية الموجهة للصهاينة فوق أرض فلسطين المغتصبة, انضم لجبهة التحرير الجزائرية مدافعا عن أرض الجزائر، حيث كان قائدا لإحدى الوحدات العسكرية برتبة كوماندوز، وهى أعلى الرتب فى الثورة الجزائرية, أقام أول اتصالات مع البلدان الاشتراكية خلال وجوده فى الجزائر، وذهب مع الزعيم أبو عمار إلى الصين التى تعهد قادتها لهما بدعم الثورة الفلسطينية دائما وكان أبو جهاد هو مهندس العلاقات مع الصين فى الحصول على السلاح كما كان حليفا لفيتنام الشمالية وكوريا الشمالية وهو الذى شارك فى حرب 1967 بتوجيه عمليات عسكرية ضد الجيش الصهيونى فى الجليل الأعلى مع الجيش السورى، وكان صاحب الدور البارز خلال حرب لبنان وفى تثبيت قواعد الثورة الفلسطينية فى مواجهة إسرائيل عبر الجنوب اللبنانى أو عبر العمليات العسكرية الفدائية التى كان يخطط لها وتنفذها قوات العاصفة التى كان قائدا لها وعضو المجلس العسكرى الأعلى للثورة الفلسطينية، بالإضافة لكونه وبعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان خرج مع ياسر عرفات إلى تونس حيث استشهد على يد الموساد الصهيونى فى تونس بعملية اغتيال محكمة, فتم إنزال 20 عنصرا من قوات الكوماندوز الإسرائيلى من أربع سفن وغواصتين وزوارق مطاطية وطائرتين عموديتين للمساندة لتنفيذ المهمة على شاطئ الرواد قرب ميناء قرطاجة، وفى نفس الوقت كان عملاء الموساد يراقبون المنطقة ويعطون التقارير السريعة المتواصلة عن الحركة فى المنطقة وبيت الشهيد وبعد مجيء أبو جهاد إلى منزله عائدا من مكتبه بدأ التنفيذ وإنزال الكوماندوز إلى الشاطئ وبعد ساعة تم توجههم بثلاث سيارات أجرة تابعة للموساد إلى منزل الشهيد الذى يبعد خمسة كيلو مترات عن نقطة النزول، وعند وصولهم إلى المنزل فى شارع "سيدى بو سعيد" انفصلت قوات الكوماندوز إلى أربع خلايا مزودة بأحدث الأجهزة والوسائل للاغتيال وفى الساعة الثانية فجرا صدر الأمر بالتنفيذ فتقدم اثنان من الأفراد كان أحدهما متنكرا بزى امرأة من سيارة الحارس الشهيد "مصطفى على عبد العال" وقتلوه برصاص كاتم للصوت وأخذت الخلايا مواقعها حول البيت حيث اقتحمت البيت وقتلت الحارس الثانى "نبيه سليمان قريشان" حيث أقدمت الخلية مسرعة لغرفة الشهيد فسمع ضجة بالمنزل بعد أن كان يكتب كلماته الأخيرة على ورق، فرفع مسدسه وذهب ليرى ما يجرى كما روت بعد ذلك السيدة "انتصار" زوجته، وإذا بسبعين رصاصة تخترق جسده ويسقط المقاتل الذى روع إسرائيل دائما, يسقط المقاتل أخيرا فى مثل هذه الأيام من شهر إبريل (16 إبريل 1988) يقتل كالأنبياء غريبا عن وطنه، لتصبح قلوب كل أطفال فلسطين وذاكرة كل الشعب الفلسطينى وطنا له.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة