أصعب اختبار يمكن أن يمر به أى كاتب ـ إذا سمح لى القارئ العزيز باعتبارى من الذين يمارسون الكتابةـ هو وقوفه عاجزا أمام ورقة بيضاء. إنه إحساس ربما يعرفه المحب الذى يواعد محبوبة فائقة الجمال يعشقها بجنون ويحلم بها منذ بداية تشكل وعيه، ويظل يردد بينه وبين نفسه سيناريو اللقاء، وكيف يقف وماذا يقول ومتى يجلس، وعندما يراها أمامه واقعا حيا، ينعقد لسانه ويقف عاجزا عن قول أو فعل أى شىء إلى أن ترحل، وبعد رحيلها يلعن نفسه وظل يردد "لو كنت قلت كذا أو فعلت كذا"، ولكن بعد فوات الأوان ورحيل المحبوبة.
هكذا حالى دائما مع هذه المحبوبة القاسية التى لا تبوح إلا ردا على بوحى، ولا تأتى بفعل إلا ردا على فعلى، ولكن هذه المرة أكثر قسوة وأكثر عجزا.. فمنذ بلغنى نبأ وفاة الشاعر وليد منير وأنا استجدى هذه المحبوبة المتمردة القاسية ـ الورقة البيضاءـ ولكنى كلما تبادرت إلى ذهنى عشرات الأسماء من الأصدقاء الذين أصروا على الرحيل، مجدى الجابرى وجلسات شبرا وسعيد عبد الخالق وعصام عبد الله ونبيه محفوظ وسعيد عبد الجبار، وغيرهم، أتذكر بدء انفراط العقد برحيل خالد عبد المنعم.
أتساءل: لماذا دائما يرحلون مبكراً؟ هل لأنهم يملون الاستمرار فى هذه الغابة التى تصر على نهشنا أحياء؟ هل لأنه كتب على هذا البلد أن يتعامل مع الثقافة والمثقفين على أنهم مجرد ترفيه ووجاهة سياسية، لا يحق لهم أن يحلموا بتعامل يوازى نصف ما يتم مع من هم أقل شأنا منهم وإبداعاً فى دول أخرى؟
هل لا يعرف القائمون على الثقافة فى مصر أن بلداً يموت فيه مبدع يخسر جيلاً بأكمله؟ وأن ظهور كاتب جديد جيد أشبه بظهور زهرة فى قلب جبل؟
من لجوء الكثير من المبدعين الجيدين إلى أعمال لا تتناسب مع مؤهلاتهم وإمكانياتهم الأدبية، مثل قيادة التاكسى والميكروباص والحرف المختلفة، إلى حرقهم أحياء فى مسرح تابع للدولة الكريمة، وصولاً إلى استجداء العلاج على نفقة الدولة الكريمة أيضا ولكن فى الموت فقط وليس فى العلاج!
كل هؤلاء الذين رحلوا فى صمت العظماء وصمة عار فى جبين نظام لا يعرف من الثقافة سوى مهرجان القراءة للجميع، ولا يعرف من الإبداع سوى أغانى الفيديو كليب والمسرح السياحى وإعلانات المساحيق والمكياج.
فأيها المبدعون لا تنتظروا من هذا الوطن سوى الموت.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة