هل تأذن لى فى دفاع مباشر عن عسكرى الأمن المركزى..وهل تأذن لى بأن أذكرك أن رجال الأمن ليسوا خصما فى المعركة..وأنهم شركاء فى الخوف والفزع والفقر والظلم وغياب العدل فى البلاد.
الآن نتحدث جميعا عن حالة قومية واسعة من الخوف فى مصر.. انظر حولك: جرائم القتل المتكررة لأسباب واهنة، القتل فى البيوت والمكاتب والشوارع، القتل لرجال وسيدات عاشوا طوال حياتهم بلا خلاف شخصى مع أحد، وبلا عداوة مع جار أو قريب أو نسيب، جرائم القتل العائلى، هذا الزوج الذى أجهز على عائلة كاملة لمطلقته بالرصاص، وهذا الأب الذى انتقم من الأم بإلقاء أبنائه فى بئر للمياه، وهذا الشاب الذى قضى على حياة والده بعشرات الطعنات، ثم هذه الجرائم المتكررة بين الشائعات والحقائق حول خطف الأطفال من داخل المستشفيات أو أمام المدارس العامة، أجواء الفزع التى حطت على البيوت والعائلات وهى تصطحب أطفالها إلى المدارس، ثم تنتظر الأمهات لساعات طويلة حتى اللحظة التى ينتهى فيها اليوم الدراسى لتعود بأبنائها سالمين إلى البيت، جرائم التحرش الفردى والجماعى، تضخم حالات السرقة بالإكراه، إنه الخوف من بين أيدينا ومن فوقنا، هذا الخوف الذى أصبح طقسا شعبيا لم يسبق له مثيل خلال العقدين الأخيرين على الأقل، لن تطالعك صحيفة ،أو يطل عليك برنامج فى الفضائيات إلا ويتحدث عن هذا الخوف، ويرصد صوره المتكررة كل يوم وفى كل مكان.
لم يكن هذا هو عيشنا وحالنا من قبل، الآن وعلى عكس ما نفاخر به أنفسنا ونباهى به العالم، لم يعد (الأمن والأمان) جزءا من واقعنا الاجتماعى، وصار الخوف مكونا أساسيا لسكان العاصمة وعواصم المحافظات، وحتى القرى الصغيرة فى الدلتا والوادى، وحين وصلنا إلى هذه الحالة من الفزع فإن أول ما فكرنا فيه جميعا، وبصوت واحد، وفى نفس واحد، وفى اتجاه واحد، هو أين رجال الشرطة، وأين سيارات الدورية، وأين رجال المباحث السريون، وأين وزارة الداخلية؟
وهذا السؤال هو أصل الأزمة فى تقديرى، إذ إن اختزال فكرة الأمن الاجتماعى فى الدور الذى تقوم به قطاعات وزارة الداخلية، يمثل انحرافا وتحريفا لأصل المشكلة، وخلطا ساذجا بين الأسباب والنتائج.
وزارة الداخلية مهمتها حفظ الأمن، لكنها لا تتحمل وحدها أسباب انتشار الجرائم فى المجتمع، ووزارة الداخلية مسئوليتها ضبط الجناة، لكنها ليست مسئولة عن تزايد عدد جرائم القتل والخطف والسرقة إلى هذا الحد، كما أنها ليست مسئولة عن شيوع حالة الفزع الأسرى والعائلى، أو عن انتشار الشائعات، أو عن فقدان الثقة العام فى مؤسسات الدولة، أو عن الشك فى تحقيق العدالة عبر المسارات الطبيعية والقانونية فى البلاد.
يمكنك أن تصنف هذا الرأى، إن شئت، باعتباره دفاعا عن وزارة الداخلية، ولا أجد فى نفسى حرجا من ذلك، خاصة مع يقينى الذى لا يقطعه شك، بأن المسئولية هنا لا تقع على رجال الشرطة وحدهم، بل تتحملها منظومة كاملة من التردى القيمى ،والاجتماعى، والسياسى فى البلاد، تردٍ تتحمله الأجهزة التنفيذية المسئولة عن إدارة النشاط العام فى البلاد، تتحمله وزارات التعليم، والصحة ،والإعلام، والإسكان وغيرها من الوزارات، تدهور يتحمله مجلس الوزراء بكامل طاقمه، حين يخفق فى بناء منظومة للعدالة والمساواة فى الحقوق، وحين يتعثر فى بناء نظام تعليمى وصحى وسكانى يحفظ كرامة الناس، ويساوى بين الأبيض والأسود، والغنى والفقير، الشرطة هنا تقع فى آخر سلم من يتحمل هذه المسئولية، والشرطة هنا هى آخر من يجب أن نلقى عليه الاتهامات.
رجال الأمن ليسوا الخصم الحقيقى للمعتصمين والمتظاهرين والمضربين من العمال والموظفين فى الشوارع والمصانع والشركات العامة والخاصة، فالخصم هنا، هم من ظلموهم من الوزراء والمسئولين فى هذه الشركات.
ضباط الشرطة الذين يطوقون المظاهرات ،ووقفات السلالم فى نقابة الصحفيين، أو أمام مبنى مجلس الدولة، ليسوا العدو الحقيقى للمحتجين، بل العدو هم هؤلاء الذين يرتدون الملابس الملكى ويجلسون فى مكاتبهم المكيفة، ويديرون الظلم بقلوب باردة.
نحن نخطئ، كجماهير ومواطنين، أو كمؤسسات للرأى، أو منظمات للمجتمع المدنى، إن تصورنا أن الخصم هنا هو الأمن، أو أن الظلم مصدره رجل الشرطة، أو أن المأساة فى بلادنا تستقر فى وزارة الداخلية، نخطئ إلى حد التزييف، ونشارك بهذا الظن فى تحريف ما يجرى على أرض الواقع، لأن الظلم الحقيقى يقع بعيدا عن هذا الصف الأول الذى تصادفه فى الشارع أو فى المظاهرة أو داخل أقسام البوليس، هذا الصف الأول من رجال الأمن ليس مسئولا عن التردى والجريمة والفساد والغلاء وغياب العدل وتدهور التعليم، وتراجع مستوى المستشفيات، والرعاية الصحية، وبطء إجراءات التقاضى الذى يؤدى فى النهاية- وعبر سنوات ممتدة- إلى تراجع دور الدولة، وهيمنة الجهل والانتقام والتربص والغدر والالتواء وانتزاع الحقوق بالقوة.
رجل الشرطة لا يتحمل كل هذا الوزر الذى قادنا إليه أهل السياسة والمال والفساد، وليس مسئولا أيضا عن انتشار الشائعات، أو عن الجرائم العائلية ،أو هيمنة الثأر أو الفتن الطائفية، بل هذا الصف الأول هو الذى يتحمل معنا كمواطنين نتائج هذا الخراب الشامل فى المجتمع، وهذا الصف الأول هو الذى نواجهه خطأ وعبثا بالمسئولية فى حين أن المسئولية الحقيقية تقع على رجال آخرين، لا تراهم فى خوذاتهم السوداء وأحذيتهم الثقيلة فى الشوارع ،بل يتخفون فى مواقعهم المرموقة بأيد ناعمة وياقات بيضاء.
نحن ننسى أحيانا أن رجل الشرطة يحمل فى النهاية صفة مواطن، يعانى من الغلاء والزحام وتراجع الدخول وفقدان العدل، وأسرته تعانى من الخوف والفزع من انتشار الجرائم، وتقاسى الحرمان والفقر، وتراجع مستوى المعيشة، وارتفاع مصاريف المدارس، كما جميع الأسر فى مصر، نحن ننسى أن رجل الشرطة يقاسمنا الظلم وقسوة العيش ليلا ونهارا، ورغم ذلك يبقى الأمن هو الشماعة الأخيرة التى يعلق عليها السياسيون خطاياهم، وتبقى وزارة الداخلية بكامل أجهزتها هى الجهة التى تقف فى وجه مدافع الرأى العام فى أزمات لم ترتكبها، وفى خلافات وصراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.
استعادة الأمن فى الشارع تبدأ من هنا، من أن يتحمل الجناة الحقيقيون مسئوليتهم عن هذا الإفساد المجتمعى، وأن يسترد المواطنون ثقتهم فى الشرطة من جديد، لا يحملون هذا الجهاز القومى مسئولية آثام لم يقترفوها، ولا يطالبونهم بحلول لخطايا لم تكن يوما بأيديهم، وفى المقابل فإن وزارة الداخلية عليها أن تبدأ فى بناء جسور للتواصل مع الناس بحلول مبتكرة ومبادرات شجاعة، جسور تؤكد أن الأمن والمواطنين فى معسكر واحد، ضد خصم واحد هو الجريمة و الظلم والفساد.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة