خالد صلاح

ما بعد أحزان عائلة الرئيس:

شعب يستحق أكثر من «هامش للحرية»!

الأربعاء، 27 مايو 2009 11:52 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كل هذا الشجن الذى اعتصمت به قلوب الناس فى مصاب عائلة الرئيس، وكل هذا الحزن الذى خيم على البيوت والشوارع والحوارى والأزقة، وكل هذا الوعى الذى أدارت به الصحف ووسائل الإعلام الحكومية والمستقلة والدوائر الحزبية والسياسية موقفها من هذا الحدث، وكل تعليقات الجماهير فى الفضائيات وعلى المواقع الإلكترونية التى قدمت عزاءها المخلص والوفى فى رحيل محمد علاء مبارك، كل هذا الحشد الذى قرر من أعماقه تجميد كل خلاف، وتأجيل كل قضية، وتعطيل كل نقد وإرجاء كل اشتباك كشف عن قيمة واحدة وأساسية لا مجال لإنكارها مطلقا، قيمة عليا ونبيلة ينعم بها هذا الشعب دون غيره وهى (فصل الحياة الخاصة عن الشأن العام فى الحياة السياسية المصرية) فى لحظة واحدة وبلا تخطيط مسبق وبلا توجيه شامل أو تعبئة إعلامية برهن هذا الشعب على قدرة فائقة فى تفادى الخلط بين الاختلاف السياسى أو الحزبى أو حتى الأيديولوجى وبين الواجب الأصيل والمشاعر الرقيقة التى لفّت عائلة الرئيس فى حزنها المفجع على أغلى وأعز ثمرات القلب فى رحيل الحفيد محمد علاء مبارك.

لم يكن الحزن العام هو الجانب المدهش هنا فى هذا المشهد، فالموت له جلاله واحترامه فى وجدان المصريين منذ خلق الله الوادى الأخضر والنهر الذى يجرى بين أحضانه، لكن المدهش حقا هو هذا الإجماع على تأجيل كل كبيرة وصغيرة إلى ما بعد أيام الألم والأسى فى عائلة الرئيس، المدهش هو هذه الشجاعة المصرية التى دفعت جماعات من العمال كانت قد قررت الإضراب لأن تقرر إلغاء تظاهراتها السياسية، وهذه الجرأة التى دفعت عتاة المعارضين إلى التسابق على برقيات العزاء وتقديم الدعوات والوصايا للرئيس وعائلته فى محاولة لإعانتهم على احتمال هذا الألم الجامح والحزن العاصف على الراحل الصغير، والمدهش أيضا هو إلغاء مقالات نقدية مطولة من الصحف اليومية المستقلة والمعارضة، وتأجيل اشتباكات سياسية مع وزراء فى الحكومة لعدم ملاءمة التوقيت، والمدهش، كذلك هى مبادرة مجموعات كبيرة من نواب المعارضة والمستقلين فى مجلس الشعب إلى تهدئة أجواء الجلسات العامة وتعديل خطط التراشق والملاحقة لوزراء الحكومة لتمر أيام الحزن فى سلام وسكينة.

لم يصدر أحد توجيها لكل هؤلاء المخلصين من المعارضين فى مصر لتتوقف أقلامهم وألسنتهم ومظاهراتهم واحتجاجاتهم، ولم يقرر أحد ما فى السلطة خطة لوحدة الصف أو تحريك المشاعر، ولم يبادر أحد من أجهزة الدولة للتفاهم مع العمال المحتجين أو الموظفين الغاضبين أو النقابات الثائرة، لكنه الوعى بحساسية التوقيت والإدراك لحجم الألم مما دفع كل هؤلاء المختلفين والمحتجين والغاضبين إلى هدنة صغيرة احتراما للشأن الخاص، وتقديرا للحزن العائلى.

من ذا الذى يحتاج دليلا أكبر من ذلك على أن هذا الشعب بلغ أرقى مراحل النضج النفسى والسياسى والوطنى إلى الحد الذى يستحق فيه ما هو أكثر من (هامش للحرية والديمقراطية)، لقد كانت الحكومات المتعاقبة على الإدارة فى بلادنا تعاير هذا الشعب زورا وبهتانا بالغوغائية وتتهمه بانعدام الخبرة السياسية وتراجع مستوى النضج المؤهل لاحتمال جميع تبعات الديمقراطية، كانت هذه المعايرة سائدة على ألسنة العديد من رؤساء وزارات مصر الذين حاربوا نحو مشروع الإصلاح الاقتصادى على حساب ثورة الإصلاح السياسى فى البلاد، وكانت حجتهم الواهنة الهشة هى فى غياب حالة النضج السياسى على المستوى الشعبى، الآن ما الذى يستطيع هؤلاء السلطويون قوله فى هذا المستوى الناضج من التعامل مع الحدث، ومن ذا الذى يستطيع تفسير كل هذا الاحترام والإجلال الذى تحركت به مختلف القوى السياسية والعمالية والفئوية والجماهيرية فى كل محافظات مصر تقديرا لمشاعر الرئيس وعائلته فى مأساتهم المؤلمة؟!

نحن أمام شعب ينعم بالوعى والإدراك والنضج السياسى والإنسانى يستحق به أن يفوز بتحريك مسيرة الإصلاح الديمقراطى حتى قمتها الأعلى، نحن أمام شعب قدم برهانا عمليا على براعته فى الفصل الدقيق والشريف بين أن يكون للقيادة السياسية حزنها الخاص وألمها العائلى ودموعها الحارة دون خلط أو اشتباك أو تقليل من أثر هذه اللحظة المؤلمة على الرجل الأول فى الجهاز السياسى للدولة، ودون اقتحام لهذه اللحظة بتفاصيل وهموم وصخب فى غير محله، نحن أمام شعب بنوابه وعماله ونقابييه وصحفييه وإعلامييه، أجمعوا للمرة الأولى وبروح واحدة على صد بعض الشائعات التى تواصلت لأيام فيما بعد هذا الرحيل المفجع لأنه يدرك بصدق أن اللحظة لا تحتمل مزيدا من الإرباك، جرى كل ذلك بحكمة شعبية فريدة تؤكد أنه لم يعد ينقصنا شىء نحو حرية كاملة وديمقراطية واعدة، ليس فيها حظر على اعتصام أو ضرب لمسيرة سلمية أو حجر على رأى أو عقاب لصحيفة أو حصار على حق إنشاء حزب سياسى أو تطويق لممارسة الحرية داخل أسوار الجامعة بلا حراس أو قيود أو رقابة مسبقة.

مصر عانت من هؤلاء الذين أهدروا فرصها فى نمو ديمقراطى كامل الملامح والتفاصيل، عانت لأن هناك حذرا من الغوغاء ومن الانحراف بالديمقراطية إلى مسارات غير آمنة، ومن تراجع مستوى التعليم ومن سيطرة الأصولية، ومن ثم جاء كثير من التفاصيل منقوصا، الآن نريد لهؤلاء أن يقرأوا التجربة الأخيرة قراءة صحيحة ويدركوا كم يكون هذا الشعب حنونا وناعما فى كل المنحنيات المؤلمة، وكم يكون السياسيون من أبنائه حكماء وعلى مستوى المسئولية فى الأزمات الخاصة والعامة ثم يقررون لنا ما نستحقه نحو المزيد من الإصلاح.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة