لأنه من مواليد 1921، فهو يعرف كل شىء عن الثورات والحروب، عاش أزمنة الاحتلال والملكية والجمهورية ثم زمن الحزب الوطنى ولجنة السياسات، لكنه فى كل هذا كان يعطى ظهره لما يحدث، يدور بدراجته النصر الـ32، يحمل على جانبيها قسطى اللبن، فوقهما الصندوق الخشبى الملىء بالزبادى، وينادى بصوته المرتفع الذى يشبهه صوتى: القشطااااااااااااة.
سقط جدى العزب وحيدا فى شقته الصغيرة بإمبابة، وحين كسروا عليه الباب وجدوه معلقا بين السرير والأرض، وقد فقد القدرة على الحركة والكلام.
فى 2005 أيام انتخابات الرئاسة كان مريضا، أجرى أكثر من جراحة، جلست معه، وسألته حين كان التليفزيون يذيع الدعاية الانتخابية للرئيس: تفتكر انت أكبر من حسنى مبارك بقد إيه؟
فقال: ييجى بتلاتين سنة.
قلت له: ازاى بقه؟
قال: انت مش شايف هو عامل ازاى وأنا عامل ازاى؟
وحين أخبرته أن الفرق بينهما سبع سنوات فقط، تعجب جدا وقال: العز بقه.
يعيش حاليا فى العناية المركزة، لا يتكلم ولا يتحرك، يتغذى من خلال الأنابيب.
كلمت أمى فى التليفون منذ يومين، كانت تبكى، فقلقت، سألتها: فى إيه؟
قالت: عمتك جت النهارده وجابت الكفن، قالت لأبوك: خليه عندك، انت هتتحرك أسرع منى.
حين شارف على الستين كان أعمامى قد سافروا إلى الخليج، وأصبحوا يرسلون له راتبا شهريا فتقاعد عن العمل، ليتفرغ لسماع إذاعة القرآن الكريم ونشرة 9 بالقناة الأولى، منذ فترة كنت قد قررت أن أجمع مقالاتى فى كتاب، وفكرت فى أن أضع على غلافه صورتى وصورة أبى وصورة جدى متجاورة، وأكتب تحت كل منها اسم صاحبها، مع سهم صغير يربط بين اسم كل واحد وصورته.
زرته منذ شهر ونصف تقريبا وقلت له: أنا عاوز أصورك يا جدى.
ابتسم فى خجل، وقال: ما خلاص بقه هتصور فيا إيه؟
قلت له: لأ، أنا لازم أصورك وأحط صورتك على كتاب وأخليك مشهور.
كان يرتدى جلبابا كستور مخططا وطاقية بيضاء، ولحيته طويلة، ابتسم فرحا وقال: لو كده بقه اصبر عليا لما أحلق دقنى وألبس حاجة كويسة كده وأروق نفسى.
ثم جاءنى التليفون من والدى: جدك فى العناية المركزة، تعالى بسرعة.
أغلقت الخط وقلت لنفسى: بقى هو ده الترويق يا حاج عزب؟
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة