فى كتابه "آفاق التمرد" تتجلى شخصية المناضل الكبير فاروق القاضى أو "البارون الاشتراكى" كما قال عنه القديس وأمير الصعاليك عبد الرحمن الخميسى قولته المشهورة فى الثورة الفلسطينية "البارون الاشتراكى خلع البدلة ولبس الكاكى"، كان شكله فعلا كما لو كان أحد البارونات القادمين من القرون الوسطى فقد امتلك وسامة رجولية فى وجهه الأبيض المستدير الذى اختلطت به بعض الحمرة الزهرية وجسدا قويا، طويلا وممشوقا وكان – أمد الله فى عمره – أيروستوقراطى السلوك مترفعا عن الدنايا التى كانت تنتشر بين "المناضلين" فى هذه الأيام من منتصف السبعينيات المحترقة بالحرب الأهلية فى لبنان وحتى خروج الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير من بيروت، عاصرته وعشت معه فى بيروت طوال الحرب الأهلية، لم أفارقه يوما واحدا طوال مدة إقامتى فى بيروت فقد كان مكتبه فى بناية "الفاكاهانى" قريبا من مكتب "أبو عمار" وفى مواجهة مكتب على سلامة أو "أبو حسن" وهو الأمير الأحمر وقائد عملية ميونيخ وقائد أمن الـ 17 حرس أبو عمار الشخصى.
كنا ثلاثة لا نفترق يوما واحدا فاروق القاضى وأمير شعراء فلسطين معين بسيسو وكاتب هذه السطور، فقد عرفت فاروق القاضى عن قرب، وهو الذى لم يتكالب على تحقيق ثروة مدنسة تنميها الانحرافات عن الثورة، مثلما فعل بعض "المناضلين" الذين حققوا ثرواتهم المشبوهة من "النضال" باسم فلسطين مع أنه سليل أحد بيوت الإيروستقراطية المصرية فهو الشقيق الأصغر للواء جمال القاضى قائد البوليس الحربى فى ثورة يوليو، وعمل فاروق القاضى فى بدايات الشباب كأحد مساعدى فؤاد باشا سراج الدين، عندما كان طالبا فى كلية حقوق القاهرة، وارتبط منذ هذه الأيام بصداقة وطيدة مع طالب كلية هندسة فى مصر ياسر عرفات، واشترك معه بعد ذلك ضمن المجموعة التاريخية فى إطلاق "حركة التحرر الفلسطينى" التى عرفت بعد ذلك باسم "فتح" ثم أصبح بعد ذلك المستشار السياسى ومدير مكتب قائد الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وحمل الاسم الحركى "أحمد الأزهرى" الذى عرف به دائما فى الثورة الفلسطينية، ساهم بشكل فعال فى وضع قانون تواجد الثورة الفلسطينية فى لبنان للحد من تجاوزات بعض العسكريين، مستلهما قانون الثورة الفيتنامية، فوضع مادة تقضى بإعدام أى عسكرى يدان بتهمة اغتصاب فتاة لبنانية وناضل كثيرا لإقرار هذه المادة.
كان يحظى بالاحترام الحقيقى من كل قادة المنظمات الفلسطينية المنافسة لفتح، فكان صديقا للحكيم جورج حبش قائد الجبهة الشعبية، وقريبا من نايف حواتمة قائد الجبهة الديموقراطية وغيرهما من كل القادة الفلسطينيين الذين اختلفوا أو اتفقوا مع ياسر عرفات، عاصر فاروق القاضى بداية انطلاق الثورة واندمج حتى النخاع فى كل الانتصارات والانتكاسات، ثم اعتذر وابتعد عنها بعد الخروج من لبنان باتجاه "أوسلو"، هنا فقط اختلف مع "عرفات"، وبأخلاقه الرفيعة قرر الابتعاد فى صمت واحترام لكل التاريخ المشرف الذى قضاه إلى جانب قائد الثورة، لكنه لم يعد إلى مصر بل استقر فى الأردن بلد زوجته الفاضلة السيدة مى إسماعيل بلبيسى، وتفرغ للكتابة فكان باكورة ما كتب هو كتابه "آفاق التمرد"، وكعادته كلما زار مصر اتصل بى وتقابلنا حيث دعانى كعادته على غدوة من "الكوستاليكا" التى لم آكلها فى حياتى إلا معه وأهدانى كتابه وحملنى نسختين من الكتاب وكتب على كل منهما الإهداء لصاحبه نسخة للكاتب الكبير محمود عوض ونسخة للكاتبة الكبيرة إقبال بركة، لكنى لم أستطع توصيل النسختين لصاحبيهما لأسباب تخصنى، بما أنهما من الكتاب الكبار فى اليوم السابع فسوف أستطيع أخيرا توصيل الأمانة، وهو كتاب شديد الجاذبية، موسوعى المضمون فى صياغة جذابة وأسلوب رشيق يتابع فكرة "التمرد" عند فلاسفة الوجودية مثل ألبير كامى وصولا إلى التمرد كثورة عند "ماركس" ملقيا بأضوائه على "التمرد" بصفته ثورة فاشلة، وبصفته الصوت العالى الذى يقول "لا"، فى مواجهة جماعات الدعوة للخضوع باسم العقل، والخنوع والاستسلام بدعوى الواقعية، لمن باتوا يرون الحرية رومانسية، والعدل خيالا، والنضال مغامرة.
هنا يحاول فاروق القاضى تسليط أضوائه على التمرد فى تكثيف لمفهوم التمرد كبعد أساسى، من وجهة نظره، فى الجنس البشرى فقد حاول فاروق القاضى أن يستخرج جوهر التمرد من تحت ركام الضلال والتضليل لتعريفنا بأبعاده وحدوده ليحسن استعماله ولتعميق فلسفته وأسسه العلمية البعيدة عن المغامرة والمقامرة أو النزوة المتطرفة، حاول "فاروق" أن يوضح لنا أننا نحتاج إلى تراكم مفهوم يؤكد أنه يوجد فى أية قوة، مهما كان جبروتها، فى أى طغيان مهما عظم الطغاة، يوجد كعب أخيل وعلى التمرد الحصول على كعب أخيل هذا كما عثر دائما عليه فى كل العصور، ونحن الآن فى عصرنا نحتاج إلى هذا المتمرد الذى يحدد مواصفاته فاروق القاضى، حيث يخرج فيه "المتمرد" عن الجماعة، معلنا عن عدم خضوعه ومعارضا لكل ما يقف فى طريقه داخل هذه الجماعة، فالتمرد كما يقول هو أن ترفض الشائع والمستقر والمعروف إذا تنافى مع العقل أو تعارض مع المصلحة أو لم يكن الأفضل، شريطة أن تكون الفائدة جماعية، المتمرد ليس فردا تدفعه رغبة تصطدم بالمجتمع وظروف الحياة فيتمرد عليها، المتمرد لا يفكر ولا يقرر نيابة عن الناس وبعيدا عنهم بل يستلهم احتياجاتهم ويتمرد على ما يرفضه فكرهم وما يضير مصالحهم لا لبس فيه، كحقيقة لا جدال فيها وأشهد الله أن فاروق القاضى كان كذلك.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة