تمتعت مصر باقتصاد قوى قبل ثورة يوليو 1952.. وتقدم الوزير ثروت عكاشة باستقالته إلى جمال عبد الناصر فمزق الاستقالة مصرحاً: "أنا لا أقبل استقالة الخدام والوزراء"، وفى عهد الملك فاروق كان الجنيه المصرى يساوى أربعة دولارات أمريكية، وكان الأقباط مضطهدين حيث تأميم ممتلكاتهم.
هكذا يمارس البعض، ومنهم الأستاذ مدحت قلادة تلخيصاً مخلاً فى النظر إلى حقبتين من تاريخ مصر، هما حقبة ثورة يوليو، والحقبة التى سبقتها، ويذهب هذا التلخيص المخل إلى اعتبار أن ما قبل يوليو كان جنة النعيم الاجتماعى، ونموذج النقاء الحزبى فى الممارسة والحكم، ولأنه تلخيص مخل بالفعل لا يقدم إجابة موضوعية ومقنعة عن أسئلة هامة تتمثل فى إذا كان وصف مصر قبل يوليو كان بهذا الشكل، فلماذا استطاع مجموعة ضباط صغار إسقاط النظام السياسى بكل هذه السهولة؟، وإذا كان اقتصاد مصر بكل هذه القوة التى يتحدث البعض عنها، فلماذا لم يدافع عموم الناس عن مكتسباتهم منه؟.
وإذا كان الجنيه المصرى كان يساوى أربعة دولارات أمريكية، فأى جيوب كان يذهب إليها هذا المردود؟؟
الأسئلة السابقة من السهل أن يجيب عنها شخص بجرة قلم واحدة، وكأنه يملك كلمة الفصل فى التعامل مع تاريخ مصر، فيقوم بالتعميم بالقول مثل قصة اضطهاد الأقباط، وهى القصة التى يتم تناولها من الأستاذ قلادة على أرضية طائفية بحتة، وكأن الثورة قد قامت لتأميم ممتلكات الأقباط وفقط، فهذا الإجراء شمل مسلمين وأقباطاً فى آن واحد، وبالتالى يجب النظر إليه من زاوية فعل سياسى شمل الوطن ككل مسلميه ومسيحييه، وحسابات خسائره ومكاسبه يتم التعامل معها وفقاً لهذا المنحى، وإلا سنجد أنفسنا أمام حساب بالقطعة يشمل حساب مكاسب المسلمين من ناحية، وحساب مكاسب الأقباط من ناحية أخرى، وبالتالى نكون أمام وطنين وشعبين واحد للمسلمين وثانٍ للأقباط.
ما يقوله قلادة يستحق التوقف أيضاً من زاوية استدعائه بعض القصص من سياقها العام للتدليل على وجهات نظره مثل قصة استقالة الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة فى عهد عبد الناصر، والذى يعد من أهم وزراء الثقافة فى تاريخ مصر، والتى يتحدث عنها عكاشة فى مذكراته بعنوان: "مذكراتى فى السياسة والثقافة"، وهى المذكرات التى تحتشد بالكثير من الحقائق التى تنقد مسيرة ثورة يوليو، لكنها فى نفس الوقت تمتلئ بالكثير من الإيجابيات، وفى أكثر من موضع يأتى ثروت عكاشة بالحوارات التى كانت تدور بينه وبين عبد الناصر، وهى حوارات ناضجة وتقوم على الاحترام المتبادل بين الاثنين، ومن ضمنها قصة استقالته من منصبه الوزارى عام 1962، والتى يقول عنها ثروت، إن عبد الناصر عرض عليه رئاسة البنك الأهلى، وامتد الحوار بينهما، وخلاله قال عبد الناصر له: إن نظامنا السياسى الرئاسى لا يعرف استقالة لوزير، ثم بادرنى بحل وسط قائلاً: "إذن سأنشر تعيينك فى الوقائع الرسمية بتاريخ يسبق التعديل الوزارى بخمسة عشر يوماً، وبهذا يكون تعيينك بالبنك سابقاً للتغيير الوزارى حتى لا يبدو أنك أقصيت عن منصبك، ولقد كان ما قال، وشفع هذا بقوله: إنى دائم الثقة بك، وبعيداً أن تتزعزع الثقة فى نفسى برغم كل ما حدث من وقيعة ودس".
ولأن قصة الوزير عكاشة التى لم يأتِ فيها، حسب قول عكاشة تمزيق الاستقالة، وذكر كلمة "خدم"، عينة من ضمن آلاف العينات الفاسدة التى يستدل بها البعض فى الهجوم على ثورة يوليو، فمن الطبيعى أن نقول، إننا أمام هجوم مغرض لا يستهدف قول الحقيقة، وقراءة التاريخ فى سياقه الصحيح، إنما هو للتشفى ليس أكثر، والدليل على ذلك قصة يذكرها عكاشة فى مذكراته، يقول فيها: فى بداية الحملة التى استهدفت تشويه جمال عبد الناصر بعد حرب أكتوبر عام 1973، وبعد أن نجحت السلطة فى استمالة بعض الضباط الذين شاركوا فى تنظيم الضباط الأحرار إلى كتابة مقالات ينتقدون فيها افتقاد الديمقراطية فى العهد السابق إلى غير ذلك من السلبيات، فوجئت ذات صباح برئيس مجلس إدارة إحدى الصحف اليومية الكبرى يطرق على باب كابينتى بشاطئ المنتزه دون موعد سابق، وأخذ يحاول إغرائى بفتح صفحات صحيفته اليومية أمامى لأكتب ما أشاء، وأسجل فيها مؤاخذاتى على النظام السابق، وبخاصة هزيمة 67، وقد صارحته على الفور بأن الساحة مزدحمة بمن يكتبون عن سلبيات العهد السابق، ولست أشك فى أن الجميع يعرفون أن له أيضاً إيجابيات قد تفوق سلبياته غير أنها محجوبة عن الناس، فإذا كان يتيح لى أن أتحدث عن هذه الإيجابيات صوتاً مؤيداً مقابل عشرات الأصوات المعادية، فإنى على استعداد لذلك، فمضى يعاود إغرائى بوفرة الأموال المرصودة للكتاب، وإذا يتبين له رفضى الصريح للمشاركة فى حملة الانتقادات سألنى عن الموضوعات الأخرى التى يمكننى أن أكتب فيها لصحيفته، فقلت إنها الموضوعات الحضارية التى تتناول الثقافة والفنون فى مصر بغير حدود، وهى مجال دراستى واهتمامى.
يضيف ثروت عكاشة، أن مندوب الصحيفة الذى تقدم إليه بعرض الهجوم على عبد الناصر غادره دون أن يعاوده، مما أكد له أن مجيئه لم يكن عن دافع ذاتى، بل كان من تكليف صاحب الأمر الذى كان وراء تلك الحماة التى أضرم النار من أجلها.
من قصة عكاشة إلى مسألة ليبرالية ما قبل ثورة يوليو، فالمدافعون عنها هم أكثر المسيئين إليها، والسبب أنهم يقرأونها بعين واحدة فقط، دون النظر إليها بعين نقدية أخرى تجيب على أسئلة من نوع، هل كانت الحياة الحزبية تسير بمعزل عن سلطة الاحتلال البريطانى لمصر؟، هل كان الملك فاروق يستطيع أن يمارس سلطته الفعلية بالمخالفة لسلطة الاحتلال؟ هل كان الشعب المصرى الذى تبلغ درجة الأمية فيه 99% يستطيع أن يمارس حريته الانتخابية بوعى كامل؟، هل كان العدل الاجتماعى فى مبتغاه، ومعه أخذ البسطاء حقوقهم كاملة من ثروة بلادهم؟.
القراءة للحياة الديمقراطية الصحيحة لا تسير بمعزل عن كل الأسئلة السابقة، ولنا فى الحاضر عبرة، فالمواطن الذى لا يجد فرصة عمل تعينه على ممارسة حياة كريمة من الصعب أن تدفعه إلى النضال من أجل الديمقراطية، والمواطن الذى ترتبط لقمة عيشه برجل أعمال نافذ يترشح مثلاً لانتخابات برلمانية لن يستطيع أن يقول لا لولى نعمته ويعارضه انتخابيا.
ومن هذه الخلفية نقول رفقاً بتاريخ مصر الملىء بخزعبلات تفرد عضلاتها أمام الحقائق الصحيحة، وبدلاً من الارتكان إلى تلك الحقائق المنصفة نجد أنفسنا أمام تاريخ يكتبه كل على هواة بالدرجة التى تصل إلى حد الجريمة فى حق مصر وشعبها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة