منطقة يسكنها ما يقرب من ثلاثة ملايين إنسان، وتقع فى المنطقة الواصلة بين القاهرة والدلتا من ناحية، والقاهرة والطريق الصحراوى الموصل للسويس وإسماعيلية من ناحية أخرى، يتوافد عليها كل يوم آلاف البشر، ويعتبرها سكان المناطق المحيطة مركزا هاما يجدون فيه ما يحتاجونه، فهل تصدق أن هذه المنطقة لا يوجد بها مستشفى عام واحد؟
الإجابة بنعم لن تُدِهشَ أحدا، فمعروف أن مصر "بلد العجايب" تجد فيها كل غريب ومريب وغامض ومدهش دون أن يستعير انتباهك، وكأن اللامنطق هو الشرعية الحقيقية التى تحكمنا، وكأن العشوائية هى القانون الأوحد، والمرجعية الأساسية التى لا نقوى على هجرانها.
إحقاقا للحق بهذه المنطقة، مستشفى كبير، افتتحه الرئيس مبارك منذ سنوات بعيدة، قيل وقتها إنه أكبر مستشفى فى الشرق الأوسط، وقيل وقتها إن بها معاملا وأجهزة وإمكانيات تفوق "القصر العينى" و"الدمرداش" و"الحميات" وهلل الناس فرحا به، فبعد أن كان مكانه "خرابة" أصبح الآن عندهم "مستشفى المطرية التعليمى"، وأمامه "جنينة" يقضون فيه ليالى الصيف الخانقة، وبمرور الأيام تحولت "الجنينة" إلى خرائب صغيرة، وتكررت شكاوى الناس من الإهمال الذى يلاقونه فى المستشفى، ثم أخذ مسئولوها يتهربون من المسئولية، متعللين بضعف الإمكانيات، إلى أن صرح أحدهم قائلا: "احمدوا ربنا إننا بنسعفكم، إحنا مستشفى تعليمى مش عام"، وهنا فقد أهل المنطقة الثقة فى المستشفى وأصبحوا يتعاملون معه تحت مبدأ "أهو أحسن من مفيش".
صباحا.. مساء.. ظهرا.. فجرا.. يفاجأ أهالى المطرية من الساكنين بالقرب من المستشفى بصراخ وعويل، فيعرفون أن "واحد مات فى المستشفى" وهكذا أصبح الموت جارهم الأبدى، يمرون عليه كل صباح، ويمر عليهم بلا استئذان، معكرا خلواتهم وأمسياتهم، ومن باب "التسليم بقضاء الله وقدره" صبروا على ما ابتلاهم ربهم، صابرين على جارهم المقيت، ومؤمنين بحكمة الله، ومشيئته.
حتى وقت قريب كان المستشفى يلقى بمخلفاته على بعد خطوات من بابه العمومى، وكان من الطبيعى أن ترى أطفالا يحملون "سرنجات" يفزعون بها بعضهم، وسعيد الحظ منهم هو الذى يجد "خرطوما مطاطيا" من المخصص لنقل الدماء ليصنع به "نبلة" كما كان عاملو النظافة فى المستشفى يبيعون "الزبالة" لربات البيوت، من اللاتى يربين الطيور، وحتى وقت أقرب لم يكن بالمستشفى جهاز لعمل الأشعة المقطعية، وكان من الطبيعى أن ترى مواطنا "بيطلع فى الروح" محمولا على أكتاف أقربائه ذاهبين به إلى مستوصف الجمعية الشرعية، لينقذوا ما يمكن إنقاذه، إن أمكن.
أنا شاهد عَيان على كل ما ذكرته، وكل ما سبق عاصرته بنفسى بحكم قرب منزلى من هذا المستشفى الكبير، وأول أمس مر أبى بأزمة صحية، أبى المسن المريض "طبعا" بالقلب والضغط، نزف من أنفه سيلا من الدماء، هرعت من نومى جريا به إلى المستشفى، استقبلنا طبيب صغير، قام بقياس الضغط وقال "زى الفل" وكان الدم مازال منهمرا، ثم قال: "اطلعوا الدور التانى يكشف أنف وأذن" وصعدنا، عشر دقائق مضت منذ دخولى إلى المستشفى حتى صعودى إلى حجرة الأنف والأذن، التى كانت مغلقة من الداخل، خمس دقائق مضت فى محاولة الطرق على باب العيادة، حتى فتحت الممرضة الباب وهى تفرك النوم من جفونها، وبعدها مرت خمس دقائق أخرى حتى جاءت الطبيبة، التى تعاملت معنا بروح ودود، لكنها فاجأتنى بطلب غريب، فالمستشفى الكبير لا يوجد به "شاش" فقالت خجلة: "عايزين رباطين شاش فزلين". فقلت لها مستنكرا: مستشفى زى دى مفيهاش شاش؟ فقالت محاولة أن تخفف حرجها: "لا مش عايزه شاش عادى أنا عايزة شاش فزلين".
30 دقيقة مرت وأبى ينزف، حتى وضعوا بأنفه "فتيلا" ليوقف النزيف، ووقف بالفعل، بعد أن أصاب أبى من الإعياء ما أصابه، 30 دقيقة كانت كافية لأنْ يفارقَ الحياة، لأن المستشفى لا يوجد به إسعافات أولية، فكرت وقتها أن أذهب به إلى مستشفى آخر، لكنى تخوفت من استمرار النزيف، وتدهور حالة أبى فى الطريق إلى أى مكان آخر، وفى الصباح ذهبت به إلى مستشفى آخر، فعرفت أن ما حدث بالأمس هو "استهبال" وليس "إسعاف"، فقد كان من المفترض أن يجرى أبى "رسم قلب" وتحليلا لقياس نسبة السيولة فى الدم" وأشعة على الصدر، بالإضافة طبعا لقياس الضغط، ومعرفة أنواع الأدوية التى يتناولها، وهذا ما زاد غيظى وسخطى على هذه المستشفى الكبير الذى أصبح فى نظرى مثل "خيال" المآتة" ويزداد غيظى وغضبى وسخطى كلما أتذكر أن أبى كان معرضا للموت فى أية لحظة، لأن المستشفى لا يجد به "شاش فزلين".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة