يبدو أننا معشر المسلمين قد صرنا مصابين بأنفلونزا مزمنة اسمها الزعل. فلا يمر يوم واحد دون أن نبدى فيه للعالم أننا مستاءون وواخدين على خاطرنا من الدنيا واللى فيها.
وكأن مصائبنا الداخلية لا تكفينا كمصدر للنكد والعويل، فإننا نفتش فى أخبار باقى العالم عن مسلمين مضطهدين فى الصين أو الشيشان أو بلاد الواق الواق كى نتأفف أكثر ونثبت لأنفسنا أن هناك مؤامرة كونية تحاك للمسلمين فى شتى بقاع الأرض وأصقاعها. وإذا شبعنا من هذه الأخبار نذهب لنفتش فى ضمير العالم عن راسم كاريكاتير يستهزئ بالرسول أو رجل عنصرى أوروبى تطاول على الإسلام والمسلمين أو نادى كرة قدم يدعى فى أغنية فريقه زورا وبهتانا أن نبينا لم يكن يفقه شيئا فى كرة القدم.
والصحف العربية تفهم أن الشعوب طهقانة وطالع عينها من جهة، وعاطفيون من جهة أخرى، فنراها تنتقى لهم الأخبار التى تضرب على الوتر الحساس. ولو كان الخبر ليس دراميا بما يكفى يتم تحبيشه وإعادة صياغته بصورة تضمن المفعول الأكيد: زوبعة فى فنجان. صارت هذه الأخبار بمثابة طب نفس شعبى: نثور ونلعن ونتظاهر ونفرغ مخزون الغضب الذى بداخلنا فى الهواء ثم نعود إلى ديارنا ونستلقى على قفانا وكأننا فعلنا شيئا عظيما. وفى النهاية لا يستفيد إلا الدكتاتوريون فى بلادنا لأننا نبدد جهودنا فى مبارزة اللهو الخفى فلا تبقى لدينا طاقة من أجل التفكير فى التغيير.
صار من يقرأ الصحف العربية يظن أن العالم بصفة عامة والغرب بصفة خاصة ليس لهم شاغل سوانا، وكأنهم يستيقظون فى الصباح فيكون أول سؤال يطرحونه على أنفسهم هو: كيف نعكر دم المسلمين وننكد عليهم عيشتهم؟ دعونى أكون صريحا معكم: نحن لا نعنى أى شئ بالنسبة للغرب، فنحن لا ننافسهم فى الاقتصاد ولا نتفوق عليهم فى البحث العلمى، وكل ما يريدونه منا هو فقط ما تبقى من بترولنا حتى يخترعوا بديلا له. ما عدا ذلك فلا نشغل من تفكيرهم سوى حيز بسيط وهو كيف يتجنبون شرورنا. بل نحن المهووسون بهم والمصابون بوسواس قهرى تجاههم. هم لا يفكرون فى إيذائنا وإنما يعيشون حياتهم الطبيعية وفق مبادئهم وبحثا عن مصالحهم ويدوسون بأقدامهم على من يقف فى طريقهم، وليتنا نفعل مثلهم.
بالطبع فإن الانتقاد والسخرية موجودان فى الغرب وجودا ملحوظا، ولكنهما مسلطان على الجميع ولا يستثنيان دينا أو مقدسا. بل إن "الرموز" مثل رئيس الدولة أو بابا الفاتيكان أو حتى شخص المسيح هم أكثر من يتعرضون للازدراء والانتقاد. ففى سبيل تحرر أوروبا من سلطة الكهنوت وسلطة الكنيسة تعلم الأوروبيون أنه لا يوجد شىء أكثر قدسية من حياة الإنسان وحريته. وحتى لو كانت هذه الحرية تزيد عن الحد أحيانا وحتى لو كان الانتقاد يعكر صفو البعض، فإنهم اصطلحوا على أن هذه آثار جانبية لا بد من أخذها واحتمالها كجزء من "باكيج" الحرية التى لا غنى عنها. حاربت أوروبا طويلا من أجل إزالة الخطوط الحمراء، لأنه لا فكر حر مع خطوط حمراء، ولا تقدم بلا فكر حر.
بالطبع مازالت هناك بعض الخطوط الحمراء فى أوروبا، مثل الهولوكوست، فبعض دول أوروبا مثل ألمانيا وفرنسا تعتبر إنكار المحرقة جريمة عقوبتها الحبس. ولكنها خطوط حمراء من صنعهم هم وناتجة عن تاريخهم، فلم يفرضها عليهم أحد من الخارج. وخطوطهم الحمراء هذه ملزمة لهم وحدهم فلا يفرضونها علينا.
يعيش فى أوروبا ملايين المهاجرين من كافة الأجناس والديانات، وهم يقبلون أن الدين لا يلعب دورا كبيرا فى المجتمع. ومعظم هؤلاء المهاجرين – فيما عدا مجموعة من المسلمين ومجموعة من اليهود – لا ينتظرون من الأوروبيين احترام مقدساتهم فى كل قول أو فعل.
أنا هنا لا أبرر أو أدافع عن إهانة قد تحدث ضد هذه المقدسات، ولكنى أحاول أن أوضح أن موجات الغضب الإسلامية فى مواجهة كل من يتعرض لمقدساتنا بالانتقاد أو الإهانة لا تأتى بنتائج إيجابية. نعم قد تؤدى مظاهرات بعض المسلمين إلى إلغاء مسرحية أوروبية فيها انتقاد لاذع للإسلام أو سحب عمل فنى من السوق لأنه صور الكعبة بصورة غير لائقة، ولكن ذلك لا يعنى أن من أوقف المسرحية أو سحب اللوحة صار يحترم الإسلام فجأة. بل إنهم يفعلون ذلك لأسباب أمنية لأنهم يعرفون من واقع تجاربهم أن الإسلاميين قادرون على تصفية من يتعارض معهم.
نعم لقد تعلمت أوروبا درسا بعد الرسوم الدانماركية المسيئة للرسول وصارت أكثر حذرا فى التعامل مع مقدسات المسلمين، فمعظم برامج التليفزيون صارت تستشير أساتذة فى الدراسات الإسلامية قبل أن تبث برنامجا عن الإسلام. واعتذر بابا الفاتيكان بعد يومين من كلمة ألقاها فى مدينة نورنبرج الألمانية عام 2006 اتهم فيها الإسلام بالميل للعنف وعدم العقلانية. حتى نادى شالكه الألمانى الذى صارت حوله ضجة كبيرة بسبب أغنية يرددها مشجعوه منذ عام 1963 تقول إن النبى لم يكن يفهم شيئا فى كرة القدم، تشاور مع المجلس الأعلى للمسلمين فى ألمانيا وأبدى استعداده لمنع الأغنية.
ولكن ذلك أدى عبر السنوات الأخيرة إلى احتقان، بل وكراهية تختفى داخل كثيرين تجاه كل شىء يمت للإسلام بصلة. فمن بين أكثر الكتب مبيعا فى ألمانيا هذه الأيام نجد كتبا بعنوان "انقدوا الغرب من الأسلمة" أو "نقد التسامح" أو "أحارب ضد الإسلام.. أحارب من أجل الحرية" وكلها تحذر من الاستكانة والرضوخ لطلبات المسلمين وتحث الأوروبيين على عدم تقديم تنازلات.
قد يكون الأوروبيون صاروا أكثر حذرا تجاهنا، لكن هذا الحذر نابع من الخوف وليس الاحترام، فأنت لا تستطيع أن تفرض على الآخرين أن يحترموك بالصراخ، ولكن بإمكانك أن تجبرهم على احترامك بإنجازاتك ومواقفك، تماما مثل الدلاى لاما زعيم البوذيين التبت الذى يحظى فى أوروبا بشعبية تفوق شعبية بابا الفاتيكان لأنه لم ينساق لاستخدام العنف ضد الاحتلال الصينى لبلاده ، بل يحث أتباعه دائما على ضبط النفس والتخلى عن العنف. وهو مع ذلك لم يتخل عن قضية بلاده ويجوب العالم لحشد الدعم لها.
أما نحن فما زلنا فى عيون غالبية الأوروبيين إما مجرد حفنة بارود قابلة للاشتعال لأتفه الأسباب أو مجموعة من الأطفال ذوى الاحتياجات الخاصة، فيجب ألا يستفزونا حتى لا نقذفهم بالحجارة. وهذا لم يخدم قضية واحدة من قضايانا، بل يساهم يوميا فى بعدنا عن العالم وبعد العالم عنا.
سألنى مرة صديق فنلندى: ما الفرق بين المتدين والمتعصب؟ قلت له: المتدين هو من يحب دينه والمتعصب هو من يكره دين الآخرين! ى النهاية دعونى أقول بأسلوب خطابى مباشر: إن من يطالب الآخرين باحترام مقدساته لابد أن يكون نفسه مثالا لاحترام مقدسات الغير.. انظر حولك عزيزى القارئ المسلم ثم فتش فى ضميرك أولا كيف تنظر لبقرة الهندوسى وتمثال بوذا والأناجيل وكتاب أقدس البهائى! هل فكرت مرة واحدة أن أسلوبك فى الكلام عن مقدساتهم قد يجرح مشاعرهم؟
عزيزى القارئ المسلم.. اوعى تكون زعلت! رمضان كريم...
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة