هى تجربة أمتعتنى.. وأجهدتنى.. تجربة معجونة من الشوق والقلق.. الحنين والتوتر.. الإقبال لتردد.. لقد اختار الناشر هنا أن يقدم للقارئ مقالاتى فى الشباب.. لكنى أقدم لك قلبى فى الشباب قلب ينبض بالعربى الفصيح.. وغالبا بالعربى الصريح.. وأحيانا بالعربى الجريح.. ومعذرة لو أراد القلب بعدها فرصة لقليل من الراحة..
محمود عوض فى مقدمة كتابه (بالعربى الجريح)
هكذا كان محمود عوض الكاتب الصحفى الإنسان حين يتحدث ويكتب بروحه وقلمه معا، فحين تمسك أحد كتبه عليك أولا أن تراه بقلبك لا بعينك حتى تفهم كل ما أراد، عليك أن تستعد لوجع فى القلب، وأن تكون دائما ممنوع من التداول لتجول فى خاطرك أفكار ضد الرصاص وتصبح بالعربى الجريح، طائر تتنقل بين الأبجديات تنتقى وطنا ترتضيه، تتعلم كيف يكون الموت فراسة، كيف يموت الشعب ليبقى الساسة.
فى مهنتنا القراءة تكون سبيلا للتواصل، لكن علينا أن نختار أولا لمن نقرأ. وقد يختارك هو بأسلوبه لتكون فى محرابه تلميذ .. وكانت كتب محمود عوض ترافقنى فى غرفتى ببيت المغتربات .. أهرب إليها بين الحين والآخر لأتصفحها أتعلم منه كيف تكون اللذة أوجاع، كيف تكون المعرفة. جرح فى زمن الجهل، فكانت أعماله أول الكتب التى علمتنى أن للقراءة متعة استثنائية، فحين أحمل أحدها بين يدى تجدنى فى حالة من نشوة الخوض فى التجربة، تمتلكنى دفتى الكتاب حتى أنتهى من آخر صفحاته وأكتشف وقتها أننى لم انتهى من الكتاب فقط وإنما انتهيت من متعة القراءة وتعلم كيف تكون الكتابة مارد يحتوينى يستنزف ما بداخلى من لهف حتى تولد كلمات قد تشبه كلمات عوض لكنها لن تكون.
ولكتاب "بالعربى الجريح" ذكرى خاصة عندى، فحين قرأته عام 2006 كنت فى إجازة طويلة من مهنة الصحافة حبيسة جدران منزلى مع هموم الأمومة والطفولة، مع كتاب محمود عوض غصت من جديد فى عشق الكتابة، وأنا أتمنى أن أكتب نصف ما كتب هذا الكاتب الإنسان من مجموعة المقالات الإنسانية عن رجال القوات المسلحة وما فعلوه من أجل يوم السادس من أكتوبر تحت عنوان "رجال اليوم السابع"، وهو يبحر فى الكثير من الموضوعات دون ملل من عبد الحليم حافظ إلى السوق العربية المشتركة، من جرائم نيويورك إلى نسائم ليل القاهرة.
من مفارقاتى مع هذا الكاتب أننى حين نزحت من مدينتى للالتحاق بالدراسات العليا فى كلية الإعلام جامعة القاهرة احتضنتنى الدكتورة عواطف عبد الرحمن فى إحدى ورش العمل بالجامعة وكان علينا أن نقدم نماذج لأهم ما قرأنا فى عالم الصحافة فكان الاختيار لمحمود عوض.
المهموم بالمصرى وحياته وطرق تفكيره وولعة الخاص بالقطاع العام الذى قد يصل للوله والتقديس وغرام من نوع خاص لا يمكنك تصنيفه أيديولوجيا سوى أنه مصرى يملك اقتناعا وتقديرا وموقفا مدعما بحقائق وأرقام لا يستطيع كل المتحمسين لسياسة البيع المجادلة بشأنها، وكيف كان يربط بين تاريخ الأمس واليوم وكيف كان يمتلك الوثائق والحقائق ليوثق مصر المصريين.
مضت السنون، وأخذتنى الكتب معها على أرفف المهنة، أواصل ملء مكتبتى بكتيباته ومعه أسماء ترثى بخطى ثابتة أسرار وألغاز عالم الصحافة. لتعاودنى الذكرى من جديد أسبوعيا مع مقال محمود عوض فى جريدتنا اليوم السابع لأمنى نفسى من جديد أنه سيأتى اليوم وأدخل عليه مكتبه أعطيه بعض الوريقات المكتوبة بخط اليد تحمل كلماتى ليحدثنى ويخبرنى عن حسه الإنسانى والصحفى بى .. لكن تتوالى الأعداد وأدخل فى تروس اليوم السابع التى لا تتوقف، حتى اليوم لأقرأ خبر وفاته وكأنى أشيع للجنة بيدى عزيز غالى، فوداعا أستاذى الذى لم أقابله وجهها لوجه وداعا يا من علمتنى أن الأقلام الصدئة لن تبقى كثيرا وداعا أستاذى الذى لم ألتقيه.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة