"ولد الإسلام غريبا وسيعود غريبا"، مقولة منسوبة للرسول يفسرها المهاجرون المسلمون فى الغرب على هواهم. أنصار الفكر السلفى والإخوانى يرون فيها نبوءة أن أسلمة أوروبا قادمة لا محالة وأن شرارة الثورة الإسلامية ستندلع من بلاد الفرنجة قبل أن تعود نارها المتأججة إلى البلاد الإسلامية.
أما من يسمون أنفسهم بتيار الإسلام المستنير فيرون فيها أملا فى أن إصلاح الفكر الإسلامى ومصالحته مع فكرة الدولة المدنية ستكون مهمة الجاليات المسلمة فى الغرب. البعض يرى أن احتكاك المسلمين بالمجتمعات الغربية قد يؤدى إلى غربلة التراث والتعجيل بعملية التنوير، فيما يستغل الآخرون مبدأ حرية العقيدة الذى يضمنه الدستور فى كل دول أوروبا ليطالبوا بتطبيق الشريعة الإسلامية.
يبدو أن هناك علاقة وثيقة بين الشريعة والتغرب، فأول منابع الشريعة الإسلامية لم تولد فى مكة مهد الإسلام، وإنما بعد هجرة الرسول وأتباعه للمدينة حيث كانت جاليات يهودية تعيش وفق القانون اليهودى "هالاخا" والتى تعنى أيضا "شريعة" أو "طريق". كلتا الشريعتين الإسلامية واليهودية تمثلان حالة من الحراك أو الانتقال من مكان إلى مكان وكلتاهما تهدف لحماية جماعة ضعيفة على سفر.
بداية التشريعات الإسلامية فى المدينة جاءت مع فرض الصلاة فى اتجاه القدس وصيام يوم عاشوراء وهو يتوافق مع أحد أعياد اليهود ثم تحريم أكل الخنزير. ولكن لاحقا وبعد أن حدث الشقاق بين الرسول واليهود جاءت تشريعات جديدة تبتعد فى أغراضها عن اليهود وأعمالهم، فقد تم تحريم الخمر والزنا والربا وذلك أيضا لحماية المهاجرين من سطوة المال والجنس والمسكرات. الشريعة فى بدايتها لم تكن سوى محاولة للحد من تأثير "الآخر" على هوية المهاجرين الهشة الوليدة.
والتشريع اليهودى أيضا لم يولد فى مصر حيث كان العبرانيون يعيشون لقرون، ولم يولد فى القدس حيث أقاموا معبدهم، وإنما تلقى موسى وصاياه العشر على جبل الطور فى سيناء فى طريقه إلى الأرض المقدسة. ومنذ ميلادها و الـ "هالاخا" تلعب دورا محوريا فى حياة اليهود منذ اختطافهم إلى بابل وحتى هجرة يهود أوروبا إلى فلسطين. مراعاة القانون الإلهى وتذكر الماضى وأسطورة الرجوع إلى الوطن الأم صارت أهم معالم الهوية اليهودية عبر ثلاثة آلاف سنة من الشتات.
ويمكن مقارنة أوضاع مسلمى المهجر اليوم بأوضاع يهود أوروبا فى الماضى.. الكثيرون منهم يعيشون فى "جيتو" مغلق ومنعزل وفق تقاليد متزمتة عفا عليها الزمن بحجة الحفاظ على الهوية. وهنا يبرز دور الشريعة كوطن بلا أرض، وكدرع واقى من تأثير الآخرين.
لم يكتف أنصار الإسلام السياسى فى الغرب بفرض معايير أخلاقية صارمة تتصادم مع الأعراف الغربية بل صاروا يطالبون السلطات الغربية بتطبيق جزئى للشريعة الإسلامية لفض النزاعات العائلية والمدنية بين مسلمى المهجر دون تدخل من القوانين الغربية. يعتقد بعضهم أن تطبيق "شريعة دايت" (بدون رجم الزانية أو قطع يد السارق) سيكون بمثابة حصان طروادة يدخل به المسلمون لعقر دار القانون الأوروبى فيأسلموه رويدا رويدا.
وبعض صناع القرار ورجال الدين المسيحى فى الغرب على درجة من السذاجة تجعلهم يظنون أن هناك بالفعل شيئا يسمى الشريعة الجزئية. هم لا يعلمون أنه لا توجد شريعة "منزوعة الدسم" فتطبيق الشريعة يمكن تشبيهه بالحمل: لا يمكن أن يكون "نص نص". وهى ليست مثل "بوفيه" مفتوح يمكنك الاختيار فيه بين وجبة نباتية وأخرى باللحم. فالشريعة نظام متكامل يخترق كل مجالات الحياة ويرتبط بفكر سلطوى راسخ يقسم العالم لمؤمن وملحد ودار حرب ودار سلم.
ولكن بعض صناع القرار فى الغرب صاروا ينخدعون بـ "بروباجندا" الإسلام السياسى التى تدعى أن الشريعة لا تتنافى مع القانون المدنى. لم يتساءل هؤلاء: إذا كان الأمر كذلك فلماذا يصر "الإسلاميون" على تطبيق الشريعة ولا يكتفون بالقانون المدنى. منذ عام 2004 ومسألة تطبيق الشريعة فى كندا تثير آمال ومخاوف وغضب الكثيرين. بدأت الحملة بتقرير قُدم لمقاطعة أونتاريو ينصح بتطبيق الشريعة، وقد أيد هذا التقرير الحزب الديمقراطى الجديد NPD والذى كان يطمع فى كسب أصوات المسلمين فى المقاطعة والبالغ عددهم 400000 نسمة.
وكانت حكومة المقاطعة تدرس بجدية إمكانية تطبيق الشريعة وفقا لقانون قديم يسمح للأقليات اليهودية منذ 1991 باستخدام القانون اليهودى لفض نزاعات الجالية اليهودية فيما بينها. ولكن حملات ومظاهرات كثيرة نظمها علمانيون داخل وخارج كندا أدت إلى تراجع الحكومة عن تبنى مشروع الشريعة، وقد ساهم فى هذه المظاهرات أيضا العديد من المسلمين الذين قالوا إنهم فروا من أحكام الشريعة فى إيران وأفغانستان ونيجيريا والسودان ولا يريدون أن تطبق عليهم فى مجتمع علمانى، فقط لأنه مكتوب فى وثائق سفرهم أنهم من أصول إسلامية.
وفى 2006 صدر كتاب لوزير العدل الهولندى يتنبأ فيه بأن تطبيق الشريعة فى هولندا قد يكون مجرد مسألة وقت. وفى بداية العام الماضى فجر روان وليامز أسقف كانتربرى مفاجأة كبرى حين أعرب عن ترحيبه بتطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقا جزئيا فى بريطانيا لمساعدة المسلمين على الاندماج فى المجتمع. وهذا الترحيب ليس فى حقيقته إلا نوع من اللامبالاة بل والعنصرية المقنعة. فبعد أن عجزت النظم الغربية عن إيجاد طرق لاندماج المسلمين فى بلدانهم يريدون أن يتركوهم فى عزلتهم ليتولوا هم شؤون أنفسهم. وأمثال وليامز من رجال الدين لا ينصحون بتطبيق الشريعة حبا للمسلمين وإنما ليمهدوا لحصول الكنيسة أيضا على صلاحيات أكبر فى صناعة القرار وفى التشريع البريطانى.
هناك أيضا بوادر أمل بين صفوف بعض المسلمين الذين يظنون أن تطبيق الشريعة سيعلى من شأنهم ويحل مشاكلهم التى لا حصر لها فى الغربة. ولو قرأ هؤلاء تاريخ يهود أوروبا لكانوا أكثر حذرا عندما يطالبون بالاستقلال القانونى. فعندما ضاقت أوروبا ذرعا باليهود فى القرون الوسطى منحوهم استقلالهم "الشرعى" ولم يتدخلوا فى شؤونهم، فأدى ذلك إلى مزيد من العزلة والانفصال عن المجتمع واستفحال أنماط متعصبة من الفكر الدينى غير المتسامح أدى فيما بعد لمزيد من المعاداة للسامية انتهت بمحرقة القرن العشرين.
المسلمون فى الغرب يعانون من مشاكل جمة لا علاقة لها بالقانون الذى يطبق عليهم. بل إن القانون الغربى (والذى يرى الكثير من المسلمين أنه وضعى كافر) هو أكبر الضمانات لحماية حقوقهم كأقلية وحرية عقيدتهم، فهو قانون لا يفرق بين دين وآخر ولا يرفع من شأن جماعة دون أخرى. فى حين أن مطالبة المسلمين بتطبيق الشريعة تقوى سطوة بعض المتطرفين المسيحيين وتعطيهم حجة قوية لإعادة الدين لساحة السياسة فى الغرب، مما قد يكون له عواقب وخيمة على المسلمين هناك. فلست أدرى لماذا يدير المسلمون ظهورهم للقانون المدنى ويطالبون بتطبيق شريعة لا يدرى أحد منهم أين تبدأ وأين تنتهى؟!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة