فى منتصف الثمانينات كنت طالبا فى كلية الآداب جامعة المنصورة، وأعمل محررا متدربا فى جريدة المنصورة التى كان يرأس تحريرها الأستاذ أسامة سرايا رئيس تحرير الأهرام الحالى.. كان لى زميل منتسب يكبرنا بعدة سنوات ويعمل فى أحد الأجهزة الأمنية.. هذا الزميل كان يعلم عشقى للصحافة.. قابلنى فى أحد الأيام منشرحا وهو يقول "ابسط يا عم سأكون سببا لعملك فى صحافة القاهرة، حيث الشهرة والمجد".. سألنى تعرف الصحفى الشهير محمود عوض.. طبعا أعرفه من خلال كتبه ومقالاته فى مجلة الشباب.. بعد ذلك عرفت أن زميلى قرر الارتباط بابنة أحد أشقاء الكاتب الكبير.. لم أنم تلك الليلة.. حيث وعدنى الزميل بأن أول لقاء له مع عم العروس سيطلب منه التوسط لإلحاقى بصحيفة كبرى.. من سوء الحظ أن الخطبة لم تتم ومات أملى فى التعرف على محمود عوض فى ذلك الوقت.
مضت السنوات.. وفى عام 1997 دعانى صديق يقيم فى بريطانيا لزيارة طويلة.. هذه الزيارة كانت الأولى لأوروبا.. بعد عودتى نشرت تحقيقا عن اللاجئين المصريين المقيمين فى لندن.. ثم حدثت المفاجأة.. اتصال تليفونى من محمود عوض ناقشنى فى التحقيق، ودعانى لمواصلة الكتابة عن القضية بعد أن عرف أن لدى المزيد من المعلومات عنها.. ثم شجعنى أن أنشر كتابى الأول.
لم يقلل من سعادتى سوى بعض الزملاء الذين أبلغونى أن هذه عادة محمود عوض يتصل بكل من يكتب خبرا أو تحقيقا جيدا فى أى صحيفة بل وأحيانا يبذل جهدا ضخما للوصول إلى صاحب العمل المتميز.
فى مناسبة صحفية هامة عام 2000 أجريت حورا مع كل من محمود عوض وسلامة أحمد سلامة.. حوار عوض كان عبارة عن نقاش مفتوح حول مستقبل صاحبة الجلالة.. بعد النشر طلب منى التواصل معه تليفونيا.. بالفعل كنت أتصل به على فترات متباعدة.
البسيط
أثناء الغزو الأمريكى للعراق كنت أعد برنامجا للتليفزيون المصرى كان يقدمه الإعلامى حسن حامد، واستضفنا الأستاذ محمود عوض فى حلقة خاصة من البرنامج للحديث عن الولايات المتحدة وإدارة جورج بوش الابن.. كان محمود عوض متألقا.. كانت تقريبا المرة الأولى التى تتاح له فرصة الحديث للتليفزيون المصرى بعد قطيعة طويلة على خلفية مواقفه الرافضة لمعاهدة كامب ديفيد ورفض التطبيع مع إسرائيل.. البرنامج التليفزيونى كان نافذة واسعة طل من خلالها محمود عوض على محبيه.
علاقتنا توثقت بعد ذلك وأصبحت أتحدث معه تليفونيا مرتين أسبوعيا على الأقل ونلتقى بشكل منتظم، إما لدى أصدقاء مشتركون أو يصطحبنى معه فى بعض المناسبات.
اعتدنا فى كل رمضان أن نتناول الإفطار معا أحيانا فى بيتى، وأحيانا أخرى فى نقابة الصحفيين أو فى مطعم بوسط البلد كان دائم التردد عليه.
الطريف أن الأستاذ محمود عوض كان يعشق الطعام الريفى مثل عادة أبناء الدقهلية،ففى أحد المرات، أعدت لنا زوجتى على مائدة رمضانية عامرة بأطعمة تبين أنه كان يتمنى تناولها منها الملوخية والمحشى وطاجن بامية، عرفت منه أنها بالصدفة أكلاته المفضلة.. ثم فوجئت برسالة رقيقه على بريدى الإلكترونى، يرشح زوجتى لجوائز دولية فى فن الطهى.
الراهب
كل مرة أزور فيها الراحل العزيز محمود عوض كنت أشرد بخيالى فى المقارنة بين وضعه المادى، ووضع صغار محررى هذه الأيام.. مع أنه صاحب موهبة نادرة، وتاريخ مهنى مبهر، وصفحة ناصعة البياض فى خدمة صاحبة الجلالة، كان يقيم فى شقة إيجارها ثمانية جنيهات، ويمتلك سيارة متهالكة ماركة فيات 128، ومعاشه أقل من راتب موظف على الدرجة الثالثة.. كنت أراه يكافح من أجل تدبير ثمن العلاج الباهظ، ويجتهد لتوفير تكاليف حياته البسيطة.. لكن بمجرد أن يفتح لى الباب ويأذن لى بالدخول والجلوس أمام مكتبه العتيق تتبخر تلك الأفكار ومع أول رشفة من كوب الشاى الذى يصر على إعداده بنفسه تتبدل أفكارى.
منذ بداية المشوار، وضع لنفسه دستوره الخاص والتزم به طوال حياته.. هذا الدستور عنوانه "الحرية" تلك هى الخبيئة التى اكتشفتها يوم وفاته والتى يسهل على كل من دخل منزله اكتشافها بين أكوام الكتب المتراكمة فى كل أرجاء المكان فهى الكنز الذى كان يحتضنه كل ليلة فى صومعته على كورنيش النيل.
الدستور
لقد كشف هو عن هذا الكنز دون أن يدرى فى أحد مقالاته عندما كتب "أستطيع أن أعطيك قلبى.. فأصبح عاشقا أعطيك طعامى.. فأصبح جائعا أعطيك ثروتى.. فأصبح فقيرا.. أعطيك عمرى.. فأصبح ذكرى.
لكننى لا أستطيع أن أعطيك حريتى. إن حريتى هى دمى هى عقلى. هى خبز حياتى .. ولو أعطيتك إياها فإننى أصبح شيئا له ماض.. لكن ليس أمامه مستقبل".
محمود عوض اختار الصحافة، فأصبحت ليله ونهاره، صباحه ومساءه زوجته وأبناءه ماضيه وحاضره.. كانت حياته، وكانت أيضا مماته.. كان يغار عليها ويتألم لها، مهموما بنهضتها، لذلك كان انحيازه واضحا لشباب المهنة، فلم يمر يوم إلا ويكسب صديقا جديدا ولا يفوته مقال أو خبر متميز إلا ويجتهد فى الوصول إلى صاحبه لتشجيعه وتزويده بالنصائح الأبوية المخلصة.. جمع حوله عشرات الأصدقاء والتلاميذ.
سيظل محمود عوض من أهم الصحفيين الذين أنجبتهم مصر.. كلماته جمل موسيقية نرددها، وعناوين كتبه تشبه التعاويذ السحرية.. مواقفه الوطنية واضحة كالشمس.. كنت أشعر وأنا أتحدث معه أن بداخله أحزانا وهموما لا يرغب فى البوح بها أو ربما كان يؤجل موعد الإعلان عنها.. هذه الهموم ترشحه ليكون بصدق "الصحفى الجريح".
كنت من المحظوظين عندما أتاحت لى الظروف الاقتراب منه.. هذا القرب غير كثير من قناعاتى وعمق بداخلى كثير من المفاهيم التى كانت مشوشة.. أهم درس تعلمته منه هو تقديس الحياة الشخصية، والفرز الجيد بين ما يصلح للنشر وما لا يصلح.
عرفت منه حكايات وأسرارا وآراء عن شخصيات مهمة سواء على مستوى المهنة أو السياسة، أغلبها حكاه بالصدفة ووسط أحاديث ومواقف عابرة.. أدركت مدى حساسيته تجاه أى كلمة تنشر عنه أو تنسب إليه خاصة لو لم يكن يعرف صاحبها معرفة وثيقة.
علاقته بالراحل عبد الحليم حافظ كانت نموذجا للوفاء والأمانة، فلم يتاجر بها فى أية لحظة ولم يستجب لتحريض الأصدقاء بأن يكتب ما يعرفه عن العندليب.. فظل حتى آخر لحظة ملتزما بمبدأ الفصل بين الشخصى والعام.. التمييز بين المسموح والمحظور.
العملاق
عندما طلبت أم كلثوم من مصطفى أمين صحفى يدون سيرتها الذاتية فى كتاب رشح لها محمود عوض رغم أنه كان فى بداية طريقه.. كان محل ثقة أستاذه وأم كلثوم فى وقت واحد.
أصدر أول كتاب له بعنوان "أم كلثوم التى لا يعرفها أحد"
طارت كوكب الشرق فرحا بما تضمنه الكتاب، فى وقت كانت تتربع فيه على عرش الغناء.. قالت لمصطفى أمين "اكتشفت أن محمود عوض اخترق عقلى وتفكيرى عرفنى أكثر من نفسى".
كان كتاب أم كلثوم بداية ميلاد كاتب عملاق ما زال فى سن مبكرة.. هذا النجاح كان سلاحا ذا حدين، فمن ناحية وضع عوض على الطريق الصحيح، ومن ناحية أخرى أثار نجاحه المبكر غيرة زملائه وبدأ يسدد ثمن اجتهاده وموهبته تدريجيا..
انحاز طوال حياته للطبقة المتوسطة التى خرج من رحمها.. من ريف المنصورة الهادئ إلى المجد والشهرة بالقاهرة الصاخبة، اجتهد وكافح وعلم وثقف نفسه بنفسه فلم يستسلم مطلقا للمصاعب ولم تكسره المطبات.. اقترب من عميد الأدب العربى، تعلم منه الصلابة، وفضيلة التمسك بالمبادئ مهما كانت النتائج.
رغم صدمة رحيله المفاجئ التى أدمت قلبى، وبقيت غير مصدق أنه لن يتناول معى إفطار رمضان هذا العام كما اتفقنا.. ولكن ما خفف من ألم الفراق أنه رحل فى شهر رمضان المبارك ويوم الجمعة الفضيل، حيث وافته المنية وهو صائم حسب تقرير طبيب الصحة.
الآن وقد أفقدنا الموت أستاذنا محمود عوض فإنه سيبقى حيا فى عقولنا وقلوبنا عبر كل حرف سطره وعبر كل جملة دونها.. كان رحمه الله يختار كلماته بحرص فتترك أثرا مدويا كرصاص يخترق ظلام الجهل والتخلف، ثم تتحول إلى ومصابيح ستظل تنير الطريق للأجيال القادمة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة