شاب فى الثانية والثلاثين من عمره يقدم على الانتحار شنقاً لأنه لم يستطع توفير متطلبات العيد لأولاده، قال لزوجته إنه سأم الحياة بكل ما فيها، وعندما عادت من شراء بعض احتياجات البيت وجدته معلقا فى السقف بحبل الغسيل.
هل انتحر هذا الشاب حقا أم قتل؟ هذا الشاب وغيره ممن تمتلئ بهم صفحات الحوادث هذه الأيام لا ينتحرون، بل يقتلون مع سبق الإصرار والترصد، ورغم ذلك يتم قيد الجريمة: موتا إراديا أو انتحارا، فما هى اليد الخفية التى امتدت ووضعت حبل الشنق حول عنق هذا الشاب وأمثاله ممن لم يستطيعوا تحمل قسوة الحياة العشوائية التى نعيشها؟ من هو القاتل، وكيف يخطط لجرائمه الكاملة التى يندفع الضحايا لتنفيذها بحق أنفسهم؟
قاتل هذا الشاب اليائس، أسهم من وراء مكتبه المكيف فى وضع سياسات التجويع والإفقار للمصريين، حتى بات كثير منهم مهانين مذلين فى الخارج، يتعرضون للعدوان من شُذَّاذ الآفاق، ومن الحفاة العراة المتطاولين فى البنيان، ومن أغبياء حضارة الاستهلاك، وسماسرة النفط، وأدعياء المدنية.
قاتل هذا الشاب اليائس من الحياة وأمثاله، نتيجة لسوء اختيار المسئولين التنفيذيين، الذين يعبرون عن النكتة الروسية المأساوية التى يرويها أحد عملاء السى آى إيه من الذين لم يكتشفوا إلا عبر الوثائق المفرج عنها بعد عقود طويلة، قال فى حوار بعد انهيار الاتحاد السوفييتى، "لم يكن مطلوباً منى جمع معلومات أو القيام بمهام انتحارية أو حتى استخباراتية، كل ما كان مطلوبا منى، هو انتقاء الكفاءات وإبعادهم عن دوائر صنع القرار، واختيار المسئولين غير المؤهلين وإسناد المناصب الهامة إليهم، والباقى هم سيتكفلون به من تلقاء أنفسهم ودون أى توجيه منى"، وهكذا انهارت إمبراطورية ضخمة كانت الأقوى والأهم لعدة عقود، فما بالنا بدولة من العالم الثالث تعانى من مشكلات جوهرية على صعيد التنمية.
قاتل هذا الشاب من واضعى السياسات العشوائية ومن متخذى القرارات العشوائية التى يتم صنعها وتوجيهها، من أجل إدارة نوع من الشو السياسى أو الاستعراض السياسى الذى لا يخدم سوى جماعة المنتفعين الضيقة، وليذهب الناس إلى الجحيم. نظرة واحدة على ملفات التعليم والصحة والبنية الأساسية من مياه الشرب والصرف الصحى والرى والإسكان، تكشف إلى أى حد وصل الترهل بالسياسات، والتقاعس والإهمال بالمسئولين التنفيذيين.
قاتل هذا الشاب سيظل حرا طليقا يرتكب جرائمه، طالما ظلت السياسات الحالية رازخة على صدورنا، وطالما بقيت حكومتنا الدفترية تهدر ثروتنا البشرية والمادية، ويغمغم مسئولوها بأرقام صماء تتجاهل عشش الصفيح والعائشين على القمامة، وضحايا طوابير الخبز وملابس العيد ومصاريف المدارس.