د. بليغ حمدى

ما وراء المعرفة

الأربعاء، 23 سبتمبر 2009 06:43 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تتنافس مختلف دول العالم فيما بينها على رفع مستويات شعوبها فى مختلف مناحى الحياة، وتحقيق المواقع الريادية فى ركب الحضارة الإنسانية المعاصرة، والسعى إلى تطويرها، وقد أولى المفكرون على الدور الرئيس والحاسم الذى تتطلع به التربية فى التقدم الحضارى، وإنتاج العلم والعلماء، وتوجيه اهتمام الأجيال إلى ضرورة تبنى أسلوب التفكير العلمى، منهجاً مستديماً يقترن بمختلف الأنشطة وأنواع السلوك عند الفرد والجماعة، وصولاً إلى بناء الإنسان المفكر، ويتطلب هذا الأمر الاهتمام بالمناهج التربوية، والتركيز على استخدام استراتيجيات التدريس الحديثة وتطويرها.

ولم يعد تعليم التفكير للطلاب اليوم هو ما يشغل علماء التربية، وإنما أصبحت جودة التفكير هى أهم التوجهات التربوية المعاصرة، التى تتطلب من المتعلم التفاعل مع مشكلات حياته، ومتغيرات عصره، والمستجدات المتلاحقة والمتنوعة، وليصبح ذا قدرة على تحليل المواقف واتخاذ القرارات، وأصبح جوهر عمليات التربية الآن تعليم الطلاب كيف يفكرون بطريقة فاعلة تجنبهم مزالق التفكير، وتدربهم على استراتيجياته .

ومن هذه الاستراتيجيات ما وراء المعرفة التى تدور حول وعى الفرد بما يقوم به من مهارات وعمليات فى أثناء التفكير، بغية تحسين الذاكرة ومراقبة عمليات التعلم وضبطها.

ويشير مفهوم ما وراء المعرفة Metacognition الذى يعد واحداً من التكوينات النظرية المعرفية فى علم النفس المعرفى المعاصرـ إلى عمليات التحكم التى يستخدمها الفرد فى حل المشكلات، وهى عمليات تخطيطية وتنفيذية مهمتها توجيه وإدارة مهارات التفكير المختلفة اللازمة لحل المشكلة (فتحى عبد الرحمن جروان:1999، ص 43) ويرجع هذا المفهوم بأصوله إلى العالم فلافل (1971) Flavell ، وذلك من خلال بحثه حول عمليات الذاكرة والتخزين والاسترجاع، ومراقبة تلك العمليات، والتحكم الذاتى فيها.

كما تعد استراتيجيات ما وراء المعرفة إحدى برامج التفكير العليا، وقد ظهر مفهوم ما وراء المعرفة metacognition فى بداية السبعينيات ليضيف بعداً جديداً فى مجال علم النفس المعرفى، ويفتح مجالاً واسعاً للدراسات التجريبية والمناقشات النظرية فى موضوعات الذكاء والتفكير والاستيعاب والوعى ومهارات التعلم والدراسة. وقد تطور الاهتمام بهذا المفهوم فى عقد الثمانينات والتسعينات، ولا يزال يلقى الكثير من الاهتمام نظراً لارتباطه بنظريات الذكاء والتعلم واستراتيجيات حل المشكلة واتخاذ القرار (DouglasHacker:2002). .

وفى مجال تعليم اللغات حظيت استراتيجيات ما وراء المعرفة بأهمية كبيرة نظراً للدور الذى تقوم به فى تنمية مهارات اللغة وضبطها والتحكم فيها، وهذه الاستراتيجيات تشير إلى وعى المتعلم بما يقوم بأدائه من مهام، والمهام اللغوية التى يقوم بها المتعلم من أجل تنمية كفاءته اللغوية تتضمن ثلاث مراحل هى : ما قبل المهمة، ومرحلة إنجاز المهمة اللغوية، ومرحلة ما بعد إنجاز المهمة اللغوية، وفى كل مرحلة من هذه المراحل يتحقق التخطيط والتنظيم والمراقبة والتقييم وإدارة المعلومات وتطويرها.

فقبل الشروع فى المهمة اللغوية يقيم الطالب ما لديه من معرفة حول المهمة التى سيؤديها، ويقوم باستجواب نفسه حول معرفته السابقة وما يريد أن يقوم به، ويستمر الطالب فى أثناء إنجاز المهمة اللغوية فى تقييم تلك المعرفة عن المهمة، فقد يكتشف أجزاء مهمة نسيها، وقد يتوقف قليلاً لإعادة تجميع المعلومات وإدراك ما وقع فيه من أخطاء، وبعد إنجاز المهمة يقوم الطالب مرة جديدة بتقييم ما قام به.

وإذا كانت الدعوة إلى استخدام استراتيجيات ما وراء المعرفة فى مراحل التعليم العام ضرورة، فإن الدعوة إلى تدريب طلاب الجامعة وبخاصة طلاب كلية التربية على هذه الاستراتيجيات أشد ضرورة، حيث إن الطالب فى هذه المرحلة أصبح مهيأً لتجاوز نقل التراث إلى حسن تفسيره، والانتقاء منه، وإحياء عناصره الثابتة، ثم ربطها بواقع مجتمعه.

كما أن مناهج التعليم الجامعى تهدف إلى تكوين إنسان يتميز بالقدرة على التفكير السليم، والإحاطة بطرائقه، والإدراك الواعى بالأساليب المستخدمة فى دراسة الكون والبيئة المحيطة، والقدرة على التحليل الموضوعى للظواهر والمشكلات، وفهم حركة التاريخ الإنسانى والخصائص التى تميز مراحله، والاستفادة من حقائقه، بالإضافة إلى التعود على تقييم تجاربه فى الحياة من منظور شمولى والاستفادة من دروسها.

ولعل تلك الأهداف السابقة التى تسعى المؤسسة الجامعية إلى تحقيقها لدى المتعلمين تتناسب مع منطلقات ما وراء المعرفة التى تتطلب من المتعلمين أن يمارسوا استراتيجيات التخطيط والمراقبة والتقييم لتفكيرهم بصورة مستمرة، ورسم الخطط اللازمة للمواقف التى يتعرض لها، ويحللها إلى عناصرها، وتقييم النتائج فى ضوء الخطط الموضوعة.

كما أنه فى سبيل السعى إلى وضع معايير لتحقيق الجودة فى التعليم الجامعى اقترح البعض وضع معيار اكتساب الخريج معلومات يستطيع توظيفها وتطبيقها فى مواقف الحياة اليومية، مع التركيز على تعرف كيفية الوصول إلى المعرفة، بالإضافة إلى قدرته على ممارسة التعلم الذاتى الذى يؤهله للتوصل إلى الحقائق والمفاهيم بدقة .

وتعليم التفكير واستراتيجياته يعد من أحد أهم أهداف التربية اللغوية فى العصر الحالى، وتزويد الدارسين فى مجال اللغة العربية ومهاراتها باستراتيجيات التفكير يجعل الطلاب المعلمين قادرين على فهم طبيعة اللغة والقواعد التى تضبطها وتحكم ظواهرها والخصائص التى تتميز بها مكوناتها، أصوات ومفردات وتراكيب .

وتشغل مهارات التفكير بأنواعها ومستوياتها المختلفة وضعاً مركزياً فى علم النفس المعرفى المعاصر، والتربية الحديثة لأنها تشكل إحدى الظواهر الأكثر أهمية وضرورة لدى المتعلمين، حيث تنطوى نشاطات الإنسان اليومية على الكثير من المواقف التعليمية التعلمية المهمة، ونظراً للاهتمام المتزايد والمتنامى من قبل المهتمين من الباحثين والقائمين على شئون التعليم بالتركيز على التربية السيكولوجية للمتعلمين من خلال تأصيل القدرة على مهارات التفكير بمستوياتها المختلفة.

لذلك يرى أن التعليم الفعال لمهارات التفكير يبدو حاجة ملحة أكثر من أى وقت مضى، لأن العالم أصبح أكثر تعقيداً نتيجة التحديات التى تفرضها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فى شتى مناحى الحياة، وربما كان النجاح فى مواجهة هذه التحديات لا يعتمد على الكم المعرفى بقدر ما يعتمد على كيفية استخدام المعرفة وتطبيقها.

كما أن هناك أسباباً عديدة تحتم على مدارسنا وجامعاتنا الاهتمام المستمر بتوفير الفرص الملائمة لتطوير وتحسين مهارات التفكير لدى المتعلمين بصورة منظمة وهادفة. الأمر الذى يتطلب معه ضرورة امتلاك المتعلمين درجة كافية من الوعى بالاستراتيجيات والمهارات ما وراء المعرفية.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة