د.سعيد اللاوندي

لهذه الأسباب كان لابد أن "يفشل" فاروق حسنى!

الثلاثاء، 29 سبتمبر 2009 06:52 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
انتهت معركة "مقعد اليونسكو" فى غير صالح المرشح المصرى، التى اشتعلت طوال العامين الماضيين وصودرت ميزانية وزارة الثقافة لحسابها! وليس سراً أن هذا الفشل كان متوقعاً - فعلاً لا قولاً - لأسباب كانت ظاهرة للعيان، لكن المرشح المصرى ركب رأسه، وسانده على العناد "معاونوه" وعمى بصره وأظلمت بصيرته عن رؤية الأشياء فى حجمها الطبيعى، وفقد مستشاروه القدرة على التمييز، فخلطوا عن عمد بين الوقائع كما هى على الأرض وبين الوقائع كما يتمنونها هم أن تكون!.

وللإنصاف، يجب أن نذكر بداية أمرين، الأول هو الدبلوماسية المصرية - وتحديداً وزارة الخارجية - فقد بذلت أقصى ما لديها من جهد وقدرة فائقة على تطويع الأحداث لصالح المرشح المصرى، وكلنا يعرف أنه لولا هذا الجهد - الذى لمسه المواطن العادى ـ لما تمكن المرشح المصرى من الوصول إلى التصفيات النهائية - رأساً برأس - مع المرشحة الأوروبية البلغارية أيرينا جيرجويفا بوكوفا.

الأمر الثانى أن فشل فاروق حسنى فى الوصول إلى مقعد مدير عام اليونسكو لا علاقة له بقامة مصر وثقلها الدولى والإقليمى، لأن الانتخابات بشكل عام وكما يعرفها القاصى والدانى تحكمها ترتيبات ومصالح دول، وكلنا يذكر أن الدكتور محمد البرادعى لم تدعم مصر ترشحه لرئاسة وكالة الطاقة الذرية، لكنه نجح، ولم يربط أحد بين نجاحه على غير رغبة مصر، التى كانت رشحت خصماً له، وبين قصر قامة مصر أو طولها، فالأمر، أولاً وأخيراً وكما ذكرنا، يتعلق برغبات دول كبرى تتحكم فى النظام الدولى، ومن ثم تمسك بمفاتيح المناصب العليا فى المؤسسات الدولية الكبرى مثل الأمم المتحدة، واليونسكو، وصندوق النقد الدولى، ومنظمة التجارة العالمية، والبنك الدولى، وبقية المؤسسات التى تطلق على نفسها الحكومة الخفية التى تحكم العالم..

أريد أن أقول إن مصر "الدولة - والنظام والحكومة"، أكبر من أن ينال منها فشل أحد مرشحيها فى الوصول إلى مقعد، لسبب بديهى، هو أن مصر كبيرة وعظيمة وعسير أن يتم اختزالها فى شخص فاروق حسنى.. وإذا حدث غير ذلك فهو خطيئة لا يجب أن تغتفر لمن يرتكبها، فمصر "باقية" ونحن جميعاً زائلون.

وفى ظنى أن هذا الفشل يجب أن يفتح مجالاً رحباً للمراجعة ومساءلة النفس وإعادة تقدير المواقف المصرية والدولية.. وهذا أفضل كثيراً لمستقبل مصر »ورؤيتها لنفسها والعالم« من الولولة ولطم الخدود والبكاء إلى حد النحيب أو العكس من ذلك وهو تصوير الأمر على انه فوز ونجاح باهر وان لم نصل إلى المقعد المأمول.. أو اتهام قوى النازية والصهيونية التى أعلنت حربها على المرشح المصرى وتكاتفت من أجل إفشاله وهو ما حدث.. أقول الترنح بين هذه السيناريوهات يضر أكثر مما ينفع فضلاً عن أنه يفقدنا ميزة الأذكياء وهى الاستفادة من التجاربة الفاشلة بقدر استفادتهم من التجارب الناجحة.

وإنصافاً للحقائق كما شاهدناها وخبرناها، فهذا الفشل له أسباب، وأكثر من أب إذا شئنا الدقة، ولذلك لم تكن مفاجأة هذه النتيجة التى ربما قرأها الكثيرون قبل أن تهبط على الرؤوس.. والأب الأول لها هو المرشح المصرى نفسه (فاروق حسنى) الذى وصفته جريدة لوموند الفرنسية فى وقت مبكر بأنه شخصية غير متسامحة ومثيرة للقلق أكثر من كونها مثيرة للجدل.. وتحدث آخرون عن أنه فشل طوال 22 عاماً كوزير للثقافة فى إدارة ديوان وزارة، فكيف نضمن نجاحه عندما يتولى مسئولية ثقافات العالم من موقع مدير عام منظمة التربية والعلوم والثقافة.. وبرهان هذه الحجة أن مكتبه ظل طوال السنوات الماضية أشبه بالحجر الذى يخرج منه ثعابين من كل لون وحجم، فمستشاره الصحفى أمضى سنوات فى السجن عقاباً له عما اقترفت يداه من فساد، وأحد معاونيه وهو أيمن عبدالمنعم لا يزال يقبع خلف أسوار السجن لنفس التهمة.

ولست أدرى كيف يغيب عن رأس البعض أن هذه الوقائع يعرفها كثير من الأوروبيين - فى الخارج - مع أنها تحدث فى داخل مصر.. والرد أن حدوثها كان يثير الضجيج وتكتب عنه الصحف بحرية تامة وينقله مراسلو الصحف الأجنبية بالصوت والصورة والرؤية والتحليل..

وقد لا يعرف الكثيرون أن فاروق حسنى عندما سخر من الحجاب اعتبر المحللون ذلك شكلاً من أشكال عدم التسامح، أما عندما لم يعتذر من منطلق مسئوليته السياسية على الأقل عن محرقة مسرح بنى سويف التى راح ضحيتها 52 مبدعاً مصرياً من خيرة الشباب ورجالات مصر، فلقد اعتبره مراسلو الصحف الأوروبية والأمريكية مراوغة وغرورا، وعدم تقدير للمسئولية..

ولقد ترك ذلك أثراً فى نفوس الكثيرين فى المجتمع الأوروبى، الذى اعتاد أن يستقيل المسئول إذا حدثت كوارث، أقل كثيراً من فجيعة موت 52 مبدعاً "حرقاً"، وخلص هؤلاء إلى الحكم عليه أنه مسئول لا يرتبط بجموع الناس أو عقولهم أو قيمهم الحاكمة، وحسبه أنه جالس على مقعد الوزارة سنيناً عدداً، ولأن الثقافة هى مهمة حضارية تبغى التواصل مع الناس وتأتى منهم فى الوقت ذاته..

ففاروق حسنى - من منطلق هذه الرؤية - سوف يضر منظمة التربية والعلوم والثقافة ولن ينفعها لا من قريب ولا من بعيد.. ناهيك عن أنه مجرد فنان تشكيلى "عادى" لم يُعرف عنه أنه ترك أثراً فنياً فى وزن الجوكندا (الموناليزا) وكل ما قام به هو المشاركة فى عدد من المعارض فى الدول الأوروبية، شأنه فى ذلك شأن آلاف الفنانين العرب..

وقد سجل عليه المراقبون سوء الإدارة.. فاختياراته للمواقع التنفيذية بالوزارة فى القطاعات المختلفة، اختيارات خالية من المعايير المهمة، إلا معايير الاستلطاف أو خفة الدم، ولذلك هبط الأداء فى قطاع السينما وتحديداً مهرجان السينما وقطاع العلاقات الثقافية الخارجية، الذى أسنده إلى صحفى لا قبل له بالسينما ولا علاقة له بالعلاقات الدولية.. فانحدرت القطاعات إلى أسفل سافلين! ناهيك عن أن نصف قيادات الوزارة من ذوى المعاشات وعديمى الخبرة فأصبحوا - مع تراكم السنين - مراكز قوى تكره الثقافة والمثقفين!

ولست أدرى سبباً لغض الطرف عن رفض دول مؤثرة مثل الولايات وبعض الدول الأوروبية النافذة.. فحسب التصريحات الصادرة عن مسئوليها، أنه لا غبار على مصر أن يكون من بين أبنائها من يجلس على مقعد مدير عام اليونسكو، شرط أن يكون شخصاً آخر غير "فاروق حسنى".. وهو أمر معروف فى الدبلوماسية أن يرفض شخص ما لمجرد أن دولة - من الوزن الثقيل - ترى أنه غير مرغوب فيه..

حدث ذلك عندما رشحت فرنسا قبل سنوات شخصاً لرئاسة البنك الدولى فرفضت أمريكا.. فاضطرت فرنسا أن تقبل ذلك على مضض، لكنها طلبت أن يكون رئيس صندوق النقد الدولى فرنسيا.. وهو ما حدث.. شىء آخر حدث ولكن على صعيد الأفكار، عندما رفضت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فكرة ساركوزى عن الاتحاد من أجل المتوسط، فرضخ الرجل وأدخل التعديلات التى طلبتها ألمانيا.

المعنى هو أن الإصرار على شخص أو فكرة قد لا يكون من حُسن الفطن، وأعتقد أننا لو استوعبنا هذه المؤشرات الرافضة لفاروق حسنى منذ البوابة كنا ربحنا الجولة مع مرشح مصرى آخر لا مجال لذكر عدد منهم الآن.. إذ لا يفيد الندم على لبن مسكوب.. وهنا لابد من الإشارة إلى مقعد آخر خسرته مصر هو مقعد مدير معهد العالم العربى، (كان ذلك فى بداية التسعينيات) عندما أصرّت مصر على ترشيح السفير عبدالحليم بدوى فرفضته فرنسا والدول العربية لأن منصب "المدير" فى هذه المؤسسة الثقافية الكبرى ليس منصباً سياسياً أو دبلوماسياً، وعندما رفعت مصر بالاسم للمرة الثانية ولم تشأ ترشيح قامة ثقافية أو أدبية أو فكرية أو أكاديمية، اضطر مجلس إدارة معهد العالم العربى أن يبحث عن مرشح آخر من المغرب التى رشحت على الفور البروفيسور محمد بنونة أستاذ الأدب العربى فى جامعة محمد الخامس.

وهكذا بسبب هذا العناد على شخص، خسرت مصر مقعد معهد العالم العربى، الذى شغله لاحقاً د. ناصر الأنصارى، وها هى تخسر مقعد مدير منظمة اليونسكو لنفس السبب!.. الأب الثانى لهذا الفشل يرجع إلى أسباب إقليمية، فالدول العربية قد انقسمت سياسياً على الأقل إلى محورين: محور الممانعة ومحور الاعتدال، وتحدثت عناصر من المحور الأول عن إمكانية العمل ضد المرشح المصرى، وهو ما حدث بالفعل عندما ظهر تيار عربى يعمل سراً لحساب مرشحة الإكوادور بحجة أنها من أصول عربية، ثم هى فنانة تشـكيلية مثل المرشح المصرى فاروق حسنى سواء بسواء!.

الأهم أن تياراً كبيراً من المثقفين العرب يرون أن مصر طوال الـ22 عاماً الماضية قد ابتعدت ثقافياً وأدبياً بشكل ممنهج عن العالم العربى.. وطوال الوقت كان فاروق حسنى ورجاله فى الوزارة يرفعون شعار مصر أولاً.. وهو الشعار الذى فهمته أوساط سياسية أوروبية وعربية على أنه دعوة للانعزالية.. وهنا تساءل هؤلاء: كيف يعمل فاروق حسنى فى وزارته على عزل مصر عن شقيقاتها العربيات بينما يهبط اليوم علينا طالباً أن يكون هو ذاته المرشح العربى فى السباق نحو اليونسكو.

ومما لا يجب أن نغُفله فى هذا السياق أن المرشح المصرى قد بدأ حملته مبكراً - قبل موعد الانتخابات بعامين على الأقل ـ وجند وسائل الميديا فى الداخل لحساب هذه الفكرة التى انتهجها البعض عندما جعلها قضية رأى عام، تضاءلت بجوارها قضايا شح مياه الشرب فى الدقهلية والشرقية والبحيرة وكفر الشيخ أو قضايا الرى بمياه الصرف الصحى..

وقد أوغر القائمون على دعايته صدور الكثيرين ضد فاروق حسنى وفكرة ترشحه لليونسكو، عندما طالبوا مصر بأن تنفق الملايين من الدولارات لشراء الأصوات وعقد الصفقات.. وتساءلوا: أين كان هؤلاء وهم يرون الناس تكاد تموت عطشاً وتفتك بأفئدتهم الأوبئة جراء الطعام الملوث الذى ملأ مصر؟!

وقد لاحظ الشعب المصرى أن الصحف القومية كانت "صور" فاروق حسنى تتصدرها فى الصفحات الأولى والأخيرة، وما بينهما مصحوبة بأخبار هى فى معظمها غير صحيحة.. وعبر التراكم الإعلامى ارتسمت صورة غير دقيقة فى الأذهان للمرشح المصرى، فانقسم الناس إلى فريقين، الأول صدق بالفعل أن فاروق حسنى شخصية عالمية يتمناها العالم لكى تجلس على مقعد اليونسكو، وهذا غير صحيح على كل حال..

والثانى وضع يده على قلبه خوفاً من النتيجة واستدعى على عقله فضيحة "صفر المونديال".. ولو تساءلنا عن الهبات والعطايا التى قدمتها الوزارة لهؤلاء "الكتبة" لطالبنا جميعاً النائب العام بالتحقيق فى وقائع إهدار المال العام.. وإذا أضفنا إلى ذلك الإعلانات اليومية التى كانت تنشرها صحف لوموند ولوفيجارو وليراسون وجورنال دى ديماش ومجلة لوبوان، ونوفيل ابزيرفاتور فى فرنسا وحدها، لأصبحت مطالبتنا إلى النائب العام صرخة مدوية.

وهو ما يدفع إلى طرح السؤال التالى: هل مقعد اليونسكو فى حال فوز فاروق حسنى يساوى كل ما أنفق عليه من أموال؟! وهو فى كل الأحوال سؤال مشروع يجب أن نبحث له عن إجابة فى المرحلة المقبلة. الأب الآخر لهذا الفشل الذى ألقمنا جميعاً حجراً وما كانت هذه رغبتنا، لكنه التقدير السيئ والإجراءات الأسوأ.. وأعنى بالإجراءات: التنازلات التى قدمها المرشح المصرى لإسرائيل ويهود العالم.. ودمجها معاونوه فى الصحف الفرنسية بلا طائل..

والمؤسف أن ما قيل هو أن مصر قدمت تنازلات، وليس المرشح المصرى، وهذه كارثة تبرأت منها مصر، لأننا كما أسلفنا لا نقبل أن تُختزل مصر العظيمة فى شخص، كائناً من كان! والمؤسف أن الصحف القومية قد امتلأت أخباراً عن اليهود السكندريين بلا معنى أو طائل.. ليس فقط لأن صاحب الصوت هو الدولة وليس الفرد سواء كان يهودياً أو غير يهودى.. ولكن أيضاً لأن استحضار هؤلاء فى صورة المُدافع عن ترشيح فاروق حسنى فيه خلط للأوراق سوف يضر حتماً بالموقف المصرى على الخريطة العربية.. وهو أمر كنا فى غنى عنه، لكن ما الحيلة وقد خطف مهمة الدعاية للمرشح المصرى نفسه غير المتخصصين وغير الجادين.. وكل همهم كما قال لى أحدهم هو أن يعمل مستشاراً لفاروق حسنى فى اليونسكو..!!

يبقى أخيراً أن نذكر أن الدبلوماسية المصرية قد قامت بدورها بإتقان، لكن كانت الأمواج الرافضة لشخص المرشح "وليس لمصر" أكبر من القدرة على احتوائها.. ثم جاءت حملة الإجراءات - التى اعتمدها فاروق حسنى - "ضده" تماماً، فكلنا يعرف أن إقامة السرادقات ودعوة أعضاء المجلس التنفيذى على بوفيهات مفتوحة هو علامة "سفه" سجلها الكثيرون على مديرى دعاية فاروق حسنى، وقد تكون أحد أسباب فشله وهزيمته بهذه الصورة التى ملأت نفوسنا "غماً ونكداً"، رغم كل ما يمكن أن يُقال بعد ذلك..

فمن منا لا يريد أن يجد نوابغ المصريين أماكن لهم فى قيادة النظام العالمى (السياسى والاقتصادى والثقافى).. وكلنا يذكر فرحتنا عندما كان بطرس غالى أميناً عاماً للأمم المتحدة، ومحمد البرادعى رئيساً للوكالة الدولية للطاقة الذرية وإسماعيل سراج الدين نائباً لرئيس البنك الدولى.. الفارق أن هؤلاء وصلوا إلى هذه المواقع بخبراتهم وكفاءاتهم العلمية ولم تنُفق مصر عليهم دولاراً واحداً، عكس ما حدث مع فاروق حسنى الذى أفرغ ميزانية وزارته على سرادقات وإعلانات ومجاملات.. ثم جاءت النتيجة لتملأ الأفواه بالمرارة.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة