لا نحتاج إلى أن نفيض فى شرح محاسن الإسلام، ومواطن تفرده، فهى أمور جاءت فى صلب القرآن الكريم، وثوابت تصدى لشرحها مفكرون مسلمون وآخرون منصفون فى الغرب والشرق لم يكونوا على ملة الإسلام، غير أننا نبدو فى حاجة إلى إعادة اكتشاف تلك (الكنوز) المخبوءة التى طمسها أهل الجهالة ممن تصدوا فى السنوات الماضية للحديث باسم الإسلام، وكأنهم يملكون توكيلا حصريا بهذه المهمة التى يشوهونها بقصد وبغير قصد..! الكنوز التى جعلت هذا الدين آخر الرسالات السماوية وأكمل الدعوات.
التوبة..
مفتاح قوة الشخصية المسلمة إن صح إسلامها واستوى قويا على سوقه، التوبة ليست تلك المعجزة الدرامية التى اعتدنا مشاهدتها فى أفلام الأبيض والأسود تلك التى ينقلب فيها المرء من النقيض إلى النقيض، لمجرد أن ضميره قد استيقظ فجأة، وإنما التوبة هى فى حقيقتها إعادة قراءة للذات، وهى نظرة للروح فى مرآة لا تعرف الكذب، ولا تجمل القبيح، ثورة على الماضى بسلبياته، ورهان على مستقبل أفضل، ذات جديدة تولد فى الذات القديمة فتحل محلها، فكأن الإنسان يخلق من جديد، نافضا عن كاهليه خطاياه مهما ثقلت، راجعا كمن ولدته أمه، مطهرا من الدنس..!
التوبة..
تلك الخطوة التى يحتاج إليها المجتمع المصرى والعربى اليوم أشد الاحتياج، وهى ليست التوبة التى يروج لها دعاة الظلامية والتكفير، من أن نعود إلى القرون الوسطى باسم التوبة، وهؤلاء يجب أن يكونوا أول من يستتاب، وإنما التوبة التى نعنيها هى تلك التى قال فيها سبحانه وتعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، التوبة هى جوهر (التغيير) ووعاء (الإصلاح) المرتجى، وهذا حقا هو المطلوب اليوم..!
التوبة..
فلسفة موجودة قبل الإسلام فى اليهودية والمسيحية، غير أنها مكتملة متبلورة كأنقى وأنضج ما يكون فى الإسلام، وهى الأداة المطلوبة لكى نعيد قراءة التاريخ، نتوب عن رفع شعارات جوفاء أعادتنا إلى الخلف بدلا من أن نتقدم، وجعلت آخرين يقولون إن العرب ظاهرة صوتية ليس إلا، نتوب عن الفرقة، عن الهرولة، عن شق الصف.
والله لو تبنا لما وقعت الفتنة فى صفوف الفلسطينيين، ولا اشتعل الاقتتال الطائفى فى العراق، ولا كان الإيرانيون حاولوا الزحف بدورهم ونفوذهم الفارسى على العرب، ولو تبنا لما كانت دول (قزمية) هنا وهناك حاولت القفز عـلى أكتاف الدور المصرى العملاق، لو تبنا لكنا اليوم كالبنيان المرصوص، ولكنا أشداء ذوى بأس..!
ولو تبنا لما كان الفساد استشرى واستفحل، ولما تراجع الاقتصاد العربى إلى ذيل القائمة، ولتحولنا من الاستيراد إلى التصدير، ولما كنا قد شغلنا أنفسنا فى الدين بأمر طول جلابيب المسلمين طويلا وقصيرا، وحكم دخول الحمام بالقدم اليمنى أو اليسرى، لو تبنا لكان لنا من عظمة الفكر الإسلامى نصيب، ولما كنا قد اتهمنا بأننا نصدر الإرهاب إلى العالم..!
ولو تبنا فلن يكون بيننا من يرفع شعار تسييس الدين أو تديين السياسة، داعيا إيانا للعودة إلى القرون الوسطى، رافعا شعار الإسلام كقميص عثمان والإسلام منه برىء، يرفع القميص الشريف بغية القفز دون وجه حق ولا شرعية على الحكم!
ولو تبنا.. لاجتهدنا وأنتجنا، وقطعنا شوطا طويلا على درب التقدم، ولما كان بعضنا اليوم يلعن الظروف، ويحقد، ويحسد، وينم، ويغتاب، لأن النجاح ويسر المعيشة كانا سيحافظان للنفوس على نقائها الذى عليه فطرت!
وفى (لو) هذه تتجلى عظمة فلسفة التوبة فى الإسلام.
ف(لو) تدل على امتناع وقوع المعنى وتوحى بالتحسر، بينما فلسفة التوبة فى الإسلام تؤكد لمن يفهمها عن حق أن الباب مفتوح أبدا للتوبة، والوقت ممتد أبداً للتوبة، لا يفوت الوقت ولا يوصد الباب.
التوبة فى الإسلام ممكنة فى أى وقت، متى توافرت العزيمة وخلصت النية، وتوجه الإنسان بعقله وقلبه إلى الله تعالى راجيا قبول توبته.
فلتكن توبتنا اليوم قبل الغد.
وليكن شهر رمضان الكريم فرصة لكى نتوب فورا وبصدق عن عبادة الماضى، وعن الخوف من المستقبل، وعن كراهية الحاضر ودمغه بالسواد، ليكن فرصة للتوبة عن الفرقة والتناحر، عن الفساد وعن الإفساد، عن التطرف وعن تسييس الدين، ليكن فرصة للتوبة عن الكسل، عن السلبية، عن البطالة المقنعة، ليكن فرصة للإصلاح الشامل، وللميلاد الجديد للذات المصرية والعربية.
اللهم تب علينا.. اللهم تقبل.