د.أحمد فؤاد أنور

محطة المفاوضات السرية

الأحد، 10 يناير 2010 06:59 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
على طريقة محصل الأتوبيس الذى كان يصيح وسط الركاب بأعلى صوته "محطة المطار السرى"، تناقلت وكالات الأنباء فى أسبوع واحد تقارير تفيد برغبة إسرائيل فى إجراء مفاوضات سرية مع الرئيس الفلسطينى محمود عباس أبو مازن، وكذلك رغبة إسرائيل فى إجراء مفاوضات سرية موازية مع حركة حماس.. المسئولون فى السلطة الفلسطينية وفى حركة حماس سارعوا بنفى قبول إجراء مفاوضات مع إسرائيل فى الوقت الحالى، على الرغم من تصريحات نتنانياهو المطاطة فى أعقاب زيارته الأخيرة للقاهرة. وبداية لا يمكن قبول أن تتحول المفاوضات مع إسرائيليين لـ"فزاعة" ولأداة تحقق مكاسب إعلامية فى الاقتتال الفلسطينى الفلسطينى، وفقا لفرضية خاطئة مفادها أن كل من يفاوض خائن وعميل، بل وكافر أيضا. على الرغم من كون المفاوضات منذ فجر التاريخ آلية أساسية بين الأعداء والخصوم، ومحاولة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب من خلال أوراق ضغط ومناورة وثقل ميدانى، وإرادة لا تلين من خلال طاولة المفاوضات، والأفضل فى أية مفاوضات أن تكون سرية، لكن بشرط ألا تكون على طريقة "المطار السرى"، حيث تستغل إسرائيل تلك المفاوضات لأغراض تتعلق بالاستهلاك المحلى من ناحية، وشغل الرأى العام العالمى من ناحية أخرى عن عنصرية إسرائيل وجرائم الحرب التى تلاحق قادتها.

فالملاحظ أن التسريبات المتعلقة بالمفاوضات السرية انطلقت من الجانب الآخر بشكل مواكب لخبر صدور أمر اعتقال لتسيبى لفنى وزير الخارجية الإسرائيلية السابقة وزعيمة المعارضة الحالية، وبشكل مواكب أيضاً لصدور كتاب عنصرى لحاخام إسرائيلى يترأس معهد دينى كبير ينص على أن قتل كل من هو غير يهودى فريضة دينية (!)، وهو أمر يضع العرب والمسلمين والمسيحيين معا لأول مرة فى خندق واحد فى مواجهة العنصرية الإسرائيلية. وقد أحسن أبو مازن صنعا عندما رفض التفاوض فى هذا التوقيت إلا عبر وسيط ولفترة محددة، لأن خبرته الميدانية مع نتنياهو تثبت أن الأخير يتعامل مع المفاوضات من منطلق المباراة الصفرية التى لاينتج عنها إلا الاصطدام بسبب إصرار طرف على أن يكون نصيب الطرف الآخر صفر. لكن الرئيس الفلسطينى مطالب فى الوقت ذاته بتوفير السبل اللازمة لدعم المفاوض الفلسطينى عند إجراء المفاوضات المستقبلية، خاصة وأن إسرائيل تطبق بكل صلافة سياسة الاغتيالات على كوادر فتح داخل الضفة الغربية دون رد فلسطينى.

إعادة طرح ملف المفاوضات يتم وسط ترحيب أمريكى مرجعه مرور عام كامل على تولى الرئيس أوباما سدة الحكم دون أن يحقق شيئا ولو النذر اليسير من التقدم فى أية مسيرة سلمية –وهو الحائز على جائزة نوبل للسلم- وعلى ذلك يجب الانتباه إلى أن المفاوضات تجرى وفق مدارس عديدة فمنها مدرسة أو تكتيك يقوم على رفع سقف المطالب فى بداية المفاوضات تحسباً لضغوطات ومساومات تقود فى النهاية لحل وسط مقبول، وهناك مدرسة ترفع لواء التشبث بنفس المواقف من البداية للنهاية، وهذا التكتيك يتطلب إرادة قوية ووسائل ضغط بلا حدود. والمراقب فى الواقع لا يمكنه تصنيف المفاوض العربى بسهولة، ويبدو أننا نعمل على "نحت" مدارس وتكتيك ننفرد به عن بقية البشر وضعت اللبنة الأولى لها فى مقطع من أغنية شعبية شهيرة يقول: "خلى شوية عليا وشوية عليك".

فى جميع الأحوال المفاوضات ليست من عمل الشيطان، حتى ولو كانت سرية، فكبار القادة عبر التاريخ، بل والرسول الكريم نفسه (صلى الله عليه وسلم) أجروا مفاوضات مع الأعداء، فالمعيار هنا ألا تكون مفاوضات استسلام أو تفريط فى تضحيات أجيال مضت وحقوق أجيال أتية. ويجب هنا الأخذ فى الاعتبار أن المفاوضات التى تكون علنية للجميع وسرية فقط بالنسبة لمصر تؤدى لنتائج غير محمودة، مثلما حدث فى أوسلو، وفى كامب ديفيد 2، وفى مفاوضات إدخال العجول لغزة منذ عام ونصف العام. ويجب على كل الأطراف الفلسطينية بالتعاون مع محيطها العربى أن توجه جهودها ونيرانها نحو الاتجاه الصحيح، وهو تكثيف العمل بكل قوة لكى يتوفر للمفاوض الفلسطينى المجابه لإسرائيل مناخاً وأوراق ضغط تمكنه من التفاوض من مركز قوة، أو على الأقل قدرة على المناورة. فهذا هو الاتجاه الصحيح الذى يجب أن نستثمر فيه جهودنا، يضاف إليه أيضاً محاولة استبيان المقاصد الحقيقية لمحصل الأتوبيس أو بائع الخيار الاستراتيجى فى أسواقنا العربية، فلا يمكن للمفاوض العربى أن يكون له ثقل فى طاولة المفاوضات أو حتى صوت مسموع، بينما إسرائيل تقتل كوادر "معسكر الاعتدال" الفلسطينى فى الضفة الغربية، ونحن نعلن صباح مساء أن المفاوضات هى خيار استراتيجى وحيد بلا بديل ولا يوجد حتى تلويح بمقاومة (!) رحم الله عرفات ياسر حين قال: لا تسقطوا غصن الزيتون من يدى، واستجاب له المجتمع الدولى.. لأنه كان يحمل فى يده الثانية البندقية.

* أكاديمى وخبير فى شئون الصراع العربى الإسرائيلى.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة