د. بليغ حمدى

حينما تصبح الشوارع متحفاً مفتوحاً

الخميس، 14 يناير 2010 07:13 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قضيت أربعة أيام كاملة بعيداً عن عملى وأسرتى وجريدتى الممتعة اليوم السابع الإلكترونية؛ نظراً لمشاركتى محاضراً فى أحد البرامج التابعة للوكالة الأمريكية للتنمية بمحافظة الأقصر، ولا أخفى أننى شعرت بوحشة وغربة واشتياق حينما انقطعت عنى إحداثيات اليوم السابع وأخبارها الحصرية، وانفراداتها المصورة. وفور عودتى من الأقصر سارعت إلى معرفة كل جديد يأتى وكل قديم فاتنى من على صفحات الموقع الإلكترونى الشاهق رغم حداثته الزمنية، أى منذ عام مضى.

وكنت قد عزمت النية والقصد وأنا بالأقصر الكتابة عن بعض الموضوعات التى تخص الواقع المصرى الراهن، مثل الجدار الفولاذى وشرعيته، والتعديلات الوزارية لاسيما ما يخص وزارة التربية والتعليم (التفكير سابقاً) وأخيراً هوس المواطنين بشائعات الضرائب العقارية. لكنى مازلت رهن محافظة الأقصر التى زرتها للمرة الأولى فى حياتى، ولا أفطن سبباً واحداً إن كان هذا التقصير فى الزيارة منى أم منها أقصد الأقصر.

وقد تتعجل عزيزى القارئ حينما تعلم أن التقصير قد يعود للأقصر نفسها، فى ظل إعلام موجه لا يصور لك هذا الجزء من مصر إلا من خلال جلابيب بيضاء، وأغطية رأس أكثر بياضاً، ومن خلال صور نساء متشحات بالسواد، وصور أخرى لمعابد وأعمدة وتماثيل متآكلة بفعل عوامل التعرية.

ولا تتعجب أيضاً أننى أزعم أن حق التقصير يعود على المحافظة التى خرج منها الشهيد سيد زكريا الملقب بصائد الدبابات، فقد شرفت بزيارة بلدته ومسقط رأسه، وكم استغرقتنى السعادة وأنا أرى هذا الفخر والعزة بعيون أبناء بلدته، ولقد حرصت على زيارة المدرسة الثانوية التى تحمل اسمه تشريفاً وتكريماً لهذا البطل، أما هو أقصد الشهيد، فلم أقرأ عنه يوما سطراً واحداً فى كتب التاريخ المدرسية التى تتكلف ملايين الجنيهات، فى الوقت الذى صارت فيه تلك الكتب المدرسية مثل بيانات الرى والكهرباء وفواتير المياه، بل لم أشاهد برنامجاً واحداً يحكى ويسرد قصته الرائعة فى التضحية فى قنواتنا التى تفتخر بتعدى عمر بعض المذيعات سن الستين.

وأكثر ما جذبنى للملاحظة والدهشة أيضاً ليس تواجد الأجانب بشكل لافت للأنظار، فمصر لاتزال سحراً خاصاً للوافدين إليها، والمقيمين عليها، والحالمين بزيارتها شئنا أم أبينا فهذا حق معلوم. ولكن سبب الدهشة هو إصرار الأجنبى على أن يقرأ فى أى مكان وكل مكان هو فيه، فى ساحات الاستقبال بالفنادق، وفى محطة القطار، وفى المعابد والمتاحف، أو على حافة حمامات السباحة، لا يهدأ ولا يكف عن القراءة، ولا تستكين عيناه وعقله فى متابعة السطور والصفحات، ومن قابلتهم وجلست معهم هم بحق أمة قارئة.

والدهشة لا تأتى من فعل القراءة التى يقومون بها، بل لاحظت أنهم يتركون الكتاب الذى يقرأونه دون أخذه معهم بعد الانتهاء منه، وحينما أردت الاستفسار عن هذا التصرف العجيب وجدت بعضاً منهم يخبرنى أنه من حق الآخر عليهم أن يقرأ ويعرف ويطلع، لأنه باختصار وعى الحقائق والمعارف والمعلومات والبيانات بعقله، ولا حاجة له بالاحتفاظ بالكتاب دون منح الآخرين حق تنفس المعرفة.

ووجدتنى أراجع ذاكرتى عن تلك الشخصيات الأكاديمية وكم كانوا فى هوس مزمن فى اقتناء الكتب دون قراءتها، ودون مساعدة طلابهم وزملائهم فى الاطلاع عليها. وربما أرجعت أسباب تأخرنا الجامعى فى تصنيف الجامعات العالمية والذى نحتفل بمرور خمس سنوات على هذا التقهقر الأكاديمى والعلمى، هو اكتناز المعرفة وحجبها عن الآخر، وانعدام التعاون العلمى وفقدان المساعدة الأكاديمية فى إعداد أبحاث ودراسات حقيقية تخدم وطناً، وتقيم حضارة، وتشيد أمة.

وكم أنا فى حالة غضب من الأقصر نفسها، حينما سمحت للآخرين أن ينقلوا لنا صوراً غير حقيقية عن هذا العالم الذى حول حياته إلى متحف كبير مفتوح، وإلى معرفة أكبر، فكل ما تسجله ذاكرتى عن أهلها بأنهم منغلقو الفكر والرؤية وهذا باطل، وأن نساءها أميات جاهلات لا يجدن فن الحياة والتعايش وهذه أكذوبة ظلت بعقول كثيرين غيرى، لكنى رأيت وشاهدت وجلست وتحاورت مع رجال ونساء شرفت بهم وبمعرفتهم، وكم هم وهن على وعى ودراية بأحداث وطنهم الكبير، ومساجلات شعبهم وأخبار دولتهم.

لكن الأهم فى ملحوظاتى عن أهلها أنهم غير مهتمين بكون أرضهم محافظة أو مدينة، لأنهم يعشقون الحياة بعيداً عن التفاصيل الإدارية التى قد لا تضيف جديداً إلى حياتهم، فهم ذو طبيعة خاصة أهمها سمة التدين الرائعة الموجودة بقلوبهم والتى تستطيع أن تلمسها فى سلوكاتهم الدينية البعيدة عن مشاعر التعصب والتطرف المنبوذ. وكم هم فى هوس محمود برموزهم الدينية التى يحملون لهم تقديراً ومكانة بقلوبهم بعيداً عن الدجل والخرافات والحكايات التى نسمعها ونشاهدها صباح مساء فى بعض القنوات الفضائية الفراغية.

بل أبرز ما رأيته وشاهدته فى رحلتى العلمية القصيرة إلى محافظة الأقصر كيف استطاع شعبها الطيب البسيط الواعى أن يكسب الأجنبى هويته الخاصة، وأن يغلفه برائحة الجنوب، لا على سبيل القهر والقمع وتضييق حرية التصرف التى اعتاد الأجنبى أن يمارسها فى وطنه وغير وطنه، بل لخصوصية الطبيعة والهوية التى امتاز بها أهل الأقصر، وعن عاداتهم وطبائعهم وأحلامهم حيث يطول.

* دكتوراه الفلسفة فى التربية










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة