لا تنزعج أبدا حينما تعلم أنك قد تدخل إلى المستشفى فى يوما ما وبدلا من أن تجد طبيب برداء أبيض،تجد شيخ بعمامة ولحية طويلة،ولا تفزع إن ذهبت نحو صيدلية المستشفى فلم تجد بها تلك الحبوب أو أدوية الشراب التى إعتدت أن يكتبها الأطباء فى روشتات لا يفهمها سوى الصيدلى وتجد بدل منها مخزن للأعشاب وعطار يجتهد لتلبية طلباتك وتحضير الوصفة ..لاتندهش أبدا لأن الناس فى مصر الأن لايذهبون للمستشفيات بل يذهبون إلى المشايخ ولا يخضعون للعلاج بسماعة الدكتور الطبية بل تصيبهم الإستكانة تحت أيدى شيخ يقرأ القرآن ويردد بعض الأدعية لتوصيف داء المريض وعلته أو قسيس يقرأ الإنجيل ويتمتم بالكثير من الترانيم.. هذا التيار السائد فى قرى ونجوع ومدن مصر يطرح سؤال يقول هل كفر الناس بالطب والمستشفيات والأدوية وغرف العمليات والطبيب الذى كان فى الماضى من الملائكة ؟..أم انهم فقط يعلنون بدون قصد عن تمردهم وغضبهم على تلك الحالة المتردية التى وصلت إليها المؤسسات العلاجية المصرية ؟أوربما تمثل تلك الحالة من اللجوء لما يسمى بالطب البديل والدجالين والمعالجين بالقرآن نوعا من الردة إلى جزء من الماضى كان فقيرا وظلاميا فى كل شئ.. فى أدواته وفى عقول خاصته قبل عامته من الناس،أم أن مايحدث هو تعبير بسيط وواضح عن حالة الإنهيار التى يعيشها المجتمع بشكل عام.
عموما لم يعد هناك أدنى شك فى أن مايسمى بالعلاج بالقراءن وعلاج الجان وعلاج الأعشاب والرقية والطب البديل أصبح مسيطرا على عقول الناس وأصبح له منظروه ومحكموه ونصابوه أيضا، لدرجة أنه أصبح شئ طبيعى أن تجد مؤتمر هنا أو مؤتمر هناك يتم عقدها لمناقشة أساليب العلاج بالقرآن وعلى أيدى رجال الدين أيا كان نوعهم .
مؤتمرات ودراسات كثيرة حاولت أن تبحث فى ظاهرة العلاج بالقرءان تلك الظاهرة التى أصبحت منتشرة فى الأوساط الغنية قبل الفقيرة وبين المتعلمين قبل الجهلاء
والواضح ممايدور على الساحة الأكاديمية العربية أن هناك فريقان الأول يصر على إدانة استغلال القرآن وثقة الناس به فى التغرير بأصحاب الحاجة تحت دعوى العلاج بكتاب الله و الفريق الآخر يؤكد على ضرورة اتاحة الفرصة لمن يطلب العلاج بقراءة القرآن والرقية الشرعية على إعتبار أن الداء من عند الله وبالتالى الدواء أيضا.
وهنا لابد لنا من وقفه لأن الكلام الأخير يعنى إمكانية أن يتحول القرآن الكريم إلى نوع من الطب البديل أو إلى وسيلة علاجية موضعية وبالتالى نخسر جوهر كتاب الله ككتاب مقدس يشكل محور تفكيرنا واعتقادنا وسلوكنا الفردى والجماعى . ووقتها سيتم اعتبار القرآن مجرد وسيلة علاجية يمكن إخضاعها للبحث العلمى ومقارنتها بالوسائل العلاجية الأخرى -كما يجرى فى أبحاث الدواء وداخل المختبرات العليمة- ووقتها سنضع كتاب الله فى إمتحان صعب وفخ خطير لأن تأثيرات القرآن لها أهدافها ومستوياتها وآفاقها التى ربما لاتستطيع أدوات البحث العلمى التجريبى الإحاطة بها بشكل مناسب، ولحظتها سيكون من الصعب الحكم على المنهج الدينى بنفس مقاييس المنهج العلمى التجريبى لأن المنهج الدينى يقوم على الإيمان والتسليم والرضى، أما المنهج العلمى فيقوم على الشك وعلى التجريب والإختبار والتعديل حيث لا قداسة فى العلم التجريبى وهو الأمر الذى لا يتماشى مع القرأن الكريم، ففى المنهج العلمى الطبى يتحقق النجاح بزوال الأعراض أما فى المنهج الدينى فقد يكون لوجود الأعراض المرضية حكمة ويكون من ورائها خيرا يفوق زوالها.. بمعنى أن مايفعله المعالجون بالقرأن وماروجوا له بغض النظر كونه مخالفا للعقل والعلم قد يكون سببا فى إهانة القرآن ككتاب إلهى له قدسيته وإحترامه بعد تحويله إلى مجرد أداة يمكن مقارنتها بأى علاج قد يصيب أو يخطئ، وفى هذا الامر يقول الشيخ الدكتور يوسف القرضاوى: (لا يكفى المسلم أن يذهب إلى شخص يقول له سوف أقرأ عليك القرآن أو المعوذات أو آية الكرسي، ويكتفى بهذا.. كيف ذلك إذا كان يعانى من مرض عضوي؟ فلا بد من علاج هذا المرض العضوى فهذا هو الذى شرعه الإسلام وعاشه المسلمون، فنحن لم نرَ فى الصحابة مَن فتح بيته، وقال"أنا متخصص فى العلاج بالقرآن، حتى النبى صلى الله عليه وسلم، وهو سيد المعالجين وسيد أطباء الروح، لم يفعل هذا، وإنما شرع الطب وشرع التداوى بما يعهده الناس،مضيفا أن الإسلام صحيح شرع لنا الأدوية الروحية، مثل الاستعاذة بالله والرقى والدعاء، ولكن بجوار الأسباب المادية التى تكملها الأسباب الروحية ).
إنتهى كلام الشيخ يوسف القرضاوى غير أن شخصا أخر مثل الدكتور زغلول النجار كان له رأى أخر، فالدكتور صاحب موضة الأعجاز العلمى فى القرأن يقول أن الماء يتأثر بقراءة القرآن مستشهدا بتجارب العالم اليابانى "ماسارو إيموتو" عن تأثر الماء بما يحدث حوله وتأثره بقراءة القرآن بوجه خاص، وبما أن جسم الإنسان يحتوى من 70%-80% ماء فمن المنطقى -طبقا لرأى الدكتور زغلول النجار- أن يتأثر الإنسان بقراءة القرآن .. وهى الفكرة التى منحها الدكتور زغلول على طبق من ذهب لعدد من المشعوذين الذين صدقوا عليها ونشروها وأوهموا الناس بها لتحقيق مكاسب خرافية فى حين عارضها عدد من الاطباء الذين مازالت فى عقولهم قبس من نور العلم.
نقطة الخلاف الكبرى بين من يعلم ومن لايعلم هى إستخدام القرآن فى إخراج الجان وعلاج الوساوس .. فإذا كان هناك من يعتبر أن الحدوتة كلها على بعض مسألة من مسائل الخرافة، فعلى النقيض تماما هناك أخر يؤمن تماما بالموضوع ..الفريق الأول يرى أن مايحدث مجرد مرض نفسى يحتاج لعلاج جيد ومدروس، والفريق الثانى مؤمن تماما بأن هناك جن يلبسه ويسيطر عليه وهذا الأمر فى الدين الإسلامى كما هو فى الدين المسيحى بل وتكاد تتشابه طرق علاجه والتعامل معه بالضرب وجلسات الزار وخلافه، وبين الإثنين هناك فريق أخر يقف فى منتصف الكوبرى ويناقش قضية كيفية فك الإلتباس بين النصوص الدينية الصحيحة حول الجن والسحر والحسد من ناحية، وبين ممارسات المعالجين بالقرآن والمعالجين الشعبيين ومحاولات بعضهم تحويل الأمر إلى مصدر للكسب غير المشروع وأكل أموال الناس بالباطل.
وقد نوقش كثيرا موضوع ضرب المريض أو خنقه بحجة إخراج الجن ( والتى مات بسببها عدد من المرضى) , وهذا تقليد شائع نقله بعض المعالجين عن الإمام ابن تيمية وبالغوا فيه وأضافوا إليه من عندهم . وهو تقليد تم استنكاره من جانب الإطباء وعدد من علماء الشريعة الذين أكدوا أنه لم يرد أى شئ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته الكرام يبيح ضرب المريض أو خنقه بحجة الرقية الشرعية , وأن ابن تيمية كأى عالم يؤخذ منه ويرد.
الرأى الأخير فى حاجة إلى مساندة قوية فى ظل العديد من الأصوات التى بدأت تقترح وجود عالم دين فى كل مستشفى يقوم بقراءة القرآن والرقية وأن يكون عمله من خلال الفريق العلاجى المتكامل وضمن الإطار العام للمؤسسة العلاجية، بهدف غلق الباب أمام أى ممارسات تتم خارج هذا الإطار ويتم محاسبة ومعاقبة القائمين بها خاصة إذا كانت تأخذ شكل الممارسة العامة بين الناس وبشكل معلن.. فهل تدرك ياعزيزى إلى أى منطقة نحن إليها ذاهبون؟ أتمنى ..!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة