أقسى شىء على النفس أن تسبح ضد التيار، وأن تتبنى أفكاراً تتعارض مع غالبية من حولك.. هذه القسوة يتضاعف تأثيرها إذا كنت تعلم مسبقاً بعدم جدوى السباحة أو حتى التفكير.. لحظتها ينتابك شعور الغريق الذى لا يدرك الشاطئ، فيصبح عرضة لتلاطم الأمواج، فيفقد القدرة على المقاومة، وتنهار كل قواه، حينها يكون فريسة سهلة لليأس والإحباط.. هذا الإحساس يصبح كالخنجر فى الصدر عندما يجد الإنسان نفسه وحيداً وسط بحر هائج من الأفكار الجامدة، التى تسود وتسيطر على عقول وقلوب أغلب فئات المجتمع.
تملكنى الشعور بالإحباط من تداعيات حادث نجع حمادى وما أثاره من جدل عقيم فى المجتمع المصرى بأسره.. السبب فى ذلك ليس فقط التعاطف السلبى مع الضحايا وذويهم، بل أيضاً بسبب الطريقة التى نفذ بها الجناة للحادث المأساوى الذى أعتبره بروفة عملية لسيناريوهات الفوضى والقتل العشوائى المتوقعة فى الفترة القادمة، فى حال استمر تردى الأوضاع السياسية والاقتصادية فى مصر على هذا النحو، فتنضم إلى قائمة الدول التى تعصف بها الطائفية والحروب الأهلية فى المنطقة العربية.
لقد ظلت مصر بمنأى عن هذا المستنقع المظلم عقود طويلة عاش فيها المسلم والمسيحى فى ودٍ وتراحم، حتى أنها كانت دائما مضرب الأمثال للوسطية، ونموذج يحتذى فى التسامح الدينى.
أشعر بردة اجتماعية تعيشها مصر حالياً.. هذه الردة أصابت الكثير من المثقفين والمتعلمين - مسلمين ومسيحين على حد سواء - بغشاوة فقدوا فيها والرؤية الطبيعية لتطور الحياة من منظور إنسانى، فانتصر لديهم التعصب على التسامح.
بشاعة حادث نجع حمادى تكمن فى اعتباره تطوراً نوعياً للجريمة الطائفية، مما جعله مادة خصبة للثرثرة بين المثقفين والعامة بلا استثناء طوال الفترة الماضية.. كنت طرفاً فى أحد تلك التجمعات التى تمثل مختلف الفئات.. أصابنى الذهول من رؤية البعض لغير المسلمين عموماً وللمسيحيين بشكل خاص، وعدم اتساع صدورهم لاستيعاب الآخر.. مبعث قلقى أنى وجدتهم لا يختلفون كثيراً عن العامة والدهماء فى فهم صحيح الدين.. وتمسكهم برؤى مغلوطة بعيدة عن تفسير النص القرآنى، فمثلاً ردد أحدهم الآية الكريمة (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) صدق الله العظيم البقرة 120.. بالطبع لست متخصصاً ولا متفقهاً فى الدين، لكن ردى كان أن هذه الآية نزلت فى ظرف معين، ولا يجوز إخراجها عن سياقها الذى نزلت فيه، والنظر إليها بصورة منفصلة، كما أن هناك عشرات الآيات الأخرى التى تدعو للتسامح والعفو ومعاملة غير المسلمين بالحكمة والموعظة الحسنة.. ثم أن ديننا الحنيف رسخ لمبدأ تقبل الاختلاف بين البشر، ومات رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون عند يهودى، كما جرى أول حوار بين المسيحية والإسلام فى عهد النجاشى إبان الهجرة الأولى إلى الحبشة، وامتدحه النبى قائلاً (إنه ملك لا يُظلم عنده أحد).. رغم ذلك نجد أن الثقافة السائدة الآن ترفض التعددية وتكرس الكراهية وتعمق الاحتقان.. الأخطر أن كل طرف يروج لشعار أننا الأفضل وديننا الأمثل، ولقد رد صاحب السؤال قائلاً لا تنسى "إن الدين عند الله الإسلام".. هنا شعرت بمدى الكارثة التى تتربص بهذا الوطن خاصة إذا كانت هذه هى رؤية الطبقات الواعية، فما بالك برؤية البسطاء لمثل هذه القضايا الدينية الحساسة؟!
خرجت من الجدل والنقاش بحقيقة واحدة أننا بالفعل فى حاجة ماسة لمصلحين مستنيرين، من أمثال الإمام محمد عبده، والشيخ شلتوت، وخالد محمد خالد وغيرهم من المفكرين الإسلاميين المعتدلين الذين أخذوا على عاتقهم تجديد الفكر الإسلامى، عبر بوابة الاجتهاد لتحقيق مقاصد وأهداف الشريعة الإسلامية السمحة، والانتقال من الاستسلام للفتاوى الفقهية الجامدة إلى روح الشريعة ومحورية العقل فى فهم الأحكام والتعامل مع النصوص.
أعلم جيداً أننى بالدخول إلى هذه المساحة كأنى أسير فى حقل من الألغام لكن وجدت أن من واجبى قرع أجراس الإنذار لكل من يخشى على وطنه من الفتن والحروب لعل أصحاب القرار يستيقظون من سباتهم العميق ويدركون حقيقة الخطر المحدق بنا، فيفسحون المجال أمام أصحاب العقول المستنيرة ليتقدموا الصفوف فى الحرب ضد التعصب والتخلف، وإعادة صياغة تلك العقول المتحجرة لتقبل الآخر قبل أن تتحول خلافاتنا إلى ثرثرة فوق أطلال الوطن الغالى.
رئيس قسم الشئون العربية بمجلة روزاليوسف
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة