هذه قصة لرجل من فصيلة الحيتان الشرسة وهو أول من استحق لقب (الحوت) فى مغارة على بابا لكنوز أراضى الدولة
هذا الحوت الذى يتمدد نفوذه من طريق وادى النطرون حتى حى مدينة نصر، ومن الساحل الشمالى حتى ساحل البحر الأحمر، لم تردعه الملاحقات القضائية، أو السقطات القانونية المتواصلة، لم يكتف بما اكتنز من مال، وما هيمن عليه من الأرض الحرام، وما شيده من العقارات الخارجة على القانون، لكنه راح يلاحق كل الغنائم السائبة من أراضى الدولة بلا سلطان أو رقيب، حتى ارتكب خطيئة جديدة توشك أن تعصف بهذه الامبراطورية العقارية وتطيح بكنوزه الآثمة مجدداً، إن كان للقانون معنى حقيقى فى هذا البلد، وإن كان للعدوان على أراضى الدولة عقاب رادع فى مصر.
القصة هنا تتخذ مساراً مختلفاً أكثر سفوراً وبجاحة، ففى الوقت الذى كانت الاعتداءات على أراضى الدولة تتخفى بالحيل القانونية، وتتصيد الثغرات التشريعية لتسيطر على آلاف الأفدنة فى كل موقع، لم يعبأ هذا الحوت بأن يكشف وجهه عند السرقة، ويعلن عن نفسه لحظة السطو، وكأنه يسخر من كل القوانين، أو كأنه تحت حماية من هم أعلى من القانون ومن العقاب.
الوقائع هنا مثيرة للضحك وللغثيان معا، حيث صارت سرقة الأرض تجرى (عينى عينك) بلا تستر أو تخف أو بحث عن ثغرات، فرجل الأعمال صاحب الاسم الأكثر ريبة فى تاريخ الاستثمار العقارى فى مصر، وضع يده بين يوم وليلة على آلاف الأفدنة على طريق القطامية - العين السخنة، وقام بالإعلان فى صحيفة قومية كبرى عن مشروع عملاق على هذه الأراضى التى سطا عليها علناً، دون أن يسدد مليماً واحداً للدولة، أو يحصل على إذن واحد بتملك هذه الأرض، وما إن أصبح الكنز الحرام بين يديه، حتى أراد أن يطلق صيحة (افتح يا سمسم) مرة أخرى ليسطو على مدخرات المواطنين بالإعلانات الوهمية فى الصحف الكبرى.
تفاصيل هذه القصة تكشفت من خلال الهيئة العامة للتخطيط العمرانى برئاسة الدكتور مصطفى مدبولى، التى فوجئ قادتها بأن هذا الحوت نشر إعلانا هائلا فى إحدى الصحف الكبرى، يزف فيه للمواطنين بشرى إقامة مشروع سكنى شديد الضخامة على طريق القطامية، معلنا بكل سفور أن المشروع يتم بموافقات رسمية صادرة عن الهيئة العامة للتخطيط العمرانى، وحدد الإعلان رقم الموافقة وسنة صدورها!
كان الإعلان يجرى بين يدى الناس فى الصباح، فيما كانت هيئة التخطيط العمرانى تحقق فى الأمر عند الظهيرة، لتكتشف أن الموافقات التى تضمنها الإعلان لم تكن سوى كذبة كبيرة، وتزوير فاضح لا علاقة له بالهيئة من قريب أو بعيد، وأن الأوراق والأرقام والتفاصيل التى أشار لها الإعلان، ليست سوى أوراق مضروبة بتوقيعات مضروبة، للسيطرة على أراضى الدولة، ولبيع الوهم للمواطنين دون خوف من رادع، أو حذر من عقاب.
هذه القصة بالكامل أمام جهات التحقيق الآن، وربما تعلن تفاصيلها المدوية قريبا، وقد حرصت على عدم الإشارة لاسم هذا الحوت أو لمزيد من التفاصيل حول طرق التحايل، انتظارا للنتائج النهائية للتحقيق فى واقعة السطو على أراضى الدولة، وواقعة التزوير فى الأوراق الرسمية بهذا التحدى العلنى للدولة وللقانون وللناس وللجميع.
هذه الواقعة لم تكن سوى حكاية بسيطة وسط ركام هائل من الحكايات المدوية حول سرقات أراضى الدولة، رواها لنا الدكتور مصطفى مدبولى رئيس الهيئة العامة للتخطيط العمرانى، واللواء عمر الشوادفى مدير المركز الوطنى لتخطيط استخدامات أراضى الدولة التابع لمجلس الوزراء، والرجلان يمثلان نموذجاً وطنياً مشرفاً فى الإدارة، والعمل باجتهاد بالغ ورقى مهنى وعلمى، للمصلحة العامة، ولحماية أراضى مصر، ومستقبل مصر العمرانى، ونصيب الأجيال القادمة من الثروة العقارية فى كل المجالات، وهذه الروايات وتفاصيلها المذهلة طغت على الساعات الثلاث التى قضاها الرجلان فى ندوة «اليوم السابع» حول (حماية أرض مصر من مافيا وضع اليد ومستقبل التخطيط العمرانى) المنشورة على الصفحة الحادية عشرة من هذا العدد، والتى شاركنا فيها أيضا النائب البرلمانى المستقل إبراهيم الجعفرى، الذى قدم بدوره حكايات أخرى مدهشة حول السطو على كنوز مصر العقارية بلا حساب أو رادع يحمى (مغارة على بابا) من هذه المافيا.
ربما تقرأ تفاصيل أكثر فى هذه الندوة التى أعدت ورقتها الرئيسية الزميلة عبير عبد المجيد، المختصة بشئون وزارة الإسكان والمجتمعات العمرانية فى «اليوم السابع»، وربما تندهش من حجم المعلومات التى يملكها هؤلاء الرجال من مواقع رسمية وتنفيذية وبرلمانية مختلفة، وربما تتحسر على ما يجرى فى السر والعلن من عمليات السطو على أرض مصر، والثراء الفاحش الذى يجرى بالتزوير والتلاعب، لكن هذا كله لا يساوى شيئاً إن اكتفى الجميع بالتحسر، وتبادل كلمات اللوم، أو إبداء الدهشة لما يجرى، هذا كله لن يساوى شيئاً إن لم يجرَ تعديل التشريعات العقابية التى تحاسب هؤلاء المجرمين، ولن يساوى شيئاً إن عرفت الحكومة مواطن الثغرات، والتزمت الصمت حولها، وهذا كله لن يساوى شيئاً إن لم يتم الضرب بقوة على يد عدد من الكبار الذين يمارسون هذه الرذيلة نفسها، ويتسترون خلف مواقعهم ونفوذهم الطاغى.
رئيس الوزراء لديه بالتأكيد معلومات أكثر اتساعاً وأعظم دقة، ورئيس الوزراء يعرف ما لا نعرفه عبر التقارير الواردة إليه من كل الجهات الرسمية، وإن لم تكن أرض مصر المنهوبة تستحق المزيد من الردع، وإن لم تكن ثروات مصر تستحق الدفاع عنها حتى لا تتكدس بالباطل فى خزائن نخبة من الفاسدين، فما الذى تساويه الحسرة هنا؟! الحسرة وحدها لا تكفى.