لا تزال الكتابة عن الرئيس مبارك، هاجساً يراود كثيرين داخل مصر وخارجها، غير أن أحداً ـ فى تقديرى ـ لم يؤت الرجل حق قدره إشادة أو نقداً، فعادة يتم التعامل معه من خلال استفهامات بلا إجابات محددة، مثل هل يعلم؟ هل يتدخل؟ ومتى؟.. يقف مؤيدوه على أرضية "حكمة وعقل الرئيس"، بينما يتعامل معه معارضوه تحت سقف سؤال واحد: متى يرحل؟ وبين المؤيدين والمعارضين لم يقف أحد ليتأمل بصدق ما للرجل وما عليه منذ وصوله للحكم. وحتى يومنا هذا، لم يتعامل أحد مع مبارك ككل لا يتجزأ.
ذلك اليوم الذى سقط فيه السادات قتيلاً، كانت مصر فى أسوأ مراحل تاريخها الحديث اضطراباً، وعلاقاتها بمحيطها العربى والإقليمى كانت تسير من سيئ لأسوأ.. وليس هناك دليل على ذلك أكثر من سحب مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس. كما أن العلاقات مع الوافدين الجدد فى طهران، بعد سقوط الشاة كانت توصف بـ"العدائية" أكثر منها علاقات مضطربة.
إنصافاً للحقائق، استطاع مبارك استعادة قدراً من مكانة مصر عربياً، وعادت الجامعة العربية إلى القاهرة كسابق عهدها، كما شهدت العلاقات بين القاهرة وطهران انفراجة لافتة فى عهد الرئيس الإيرانى محمد خاتمى، وربما يظل هبوط طائرة مصرية تحمل مساعدات على أرض إيرانية، أهم فى تقديرى من أن تطأ قدما السادات مطار "بن جوريون".
إذا كان عبد الناصر والسادات أستمدا شرعية حكميهما من ثورة يوليو، إلى أن أعلن السادات بداية شرعية نصر أكتوبر، فإن اغتيال السادات، كان دليلاً على الرفض الشعبى للممارسات السياسية التى لحقت بمعركة التحرير، وهو ما وأد تلك الشرعية بمرافقة "بطل الحرب والسلام" فى قبره، ليدخل مبارك السلطة بلا شرعية واضحة المعالم.. حينما حكم مبارك بتلك الطريقة كان قطعاً يستحق الرثاء، لكن استمراره على هذا النحو قرابة ثلاثة عقود يجعل منه سياسيا يستحق الإشادة، استطاع أن يخلق من "القضاء والقدر" شرعية حكم!
مبارك الأكثر ديمقراطية عربياً، ونظرة بسيطة لعدد الصحف الصادرة فى القاهرة، وما تحملة من انتقادات لشخص الرئيس وسياساته، تكشف ذلك، حيث كفل لأصحاب الرأى تجاوز ما يمكن تسميته فى دول عربية أخرى "خطوطاً حمراء". لكنه أيضاً رسخ مبدأ جديدا لقيادات نظامه ووزرائه: "من حقك أن تقول ما تشاء، ومن حقى أن أفعل ما أريد"، لتصبح الكلمة والرأى داخل مصر فعلا حرا، بلا رد فعل، فالصحافة المصرية عاجزة عن إقالة وزير "سب الدين"، بينما نجحت "واشنطن بوست" فى إقالة نيكسون بعد فضيحة "وترجيت".
يظل مبارك سيئ الحظ بما هو مبتلى به من صحفيى "طشة الملوخية"، الذين لا يجيدون فن الإقناع، لكنه قطعاً محظوظ بذلك الكهل البسيط الذى يشاهده فى التلفاز عقب أحداث الجزائر الأخيرة، ويستمع له وهو يحذر من المساس بكرامة المصرى ليردد صارخاً: "ينصر دينك يا ريس"، ذلك المواطن البسيط الذى يؤكد أن المصريين ربما يشكون الفقر والجوع.. لكن أحداً منهم لا تعرف الكراهية تجاه الرئيس طريقاً لقلبه.. هؤلاء وحدهم هم من يضمنون لمبارك خروجاً آمناً هادئاً من السلطة، أقل اضطراباً من دخولها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة