"إذا رحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم"، بيت من روائع المتنبى ، أتذكره، كلما رحل أحد كبار أساتذتنا أو أصدقائنا، ممن قرأنا لهم قبل أن نعرفهم، وعرفناهم بعد أن عملنا معهم أو صاحبناهم. واقتربنا من عالمهم الإنسانى.. حدث هذا مع عند رحيل المفكر والكاتب العظيم والإنسان الرائع محمد عودة، ومع رحيل المفكر الدكتور عبد الوهاب المسيرى، والكاتب والمفكر الرائع رجاء النقاش وغيرهم من الكتاب المفكرين والكتاب الذين تجاوزت علاقتنا معهم العمل أو الفكر إلى مواقف وحكايات إنسانية، تكشف عن أرواح متصالحة، وقلوب تتسع للبشر وتمنح الحب والتسامح فضلا عن الأفكار.. والآن أحسه مع رحيل الكاتب الكبير يوسف الشريف. هؤلاء ليسوا مجرد أساتذة، لكنهم يشاركوننا ذكريات ومواقف، ولا أعرف لماذا تخيلت أنى سألتقى يوسف الشريف فى عزائه وأنه سيلتقينى بابتسامته الرائعة وهو يقبل علىَّ قائلا "أهلا أهلا".
تعرفت على يوسف الشريف فى أوائل التسعينات، كنا فى رحلة عمل إلى دولة عربية، كان مع الصديق جمال الشناوى، بالطبع كنت أقرأ ليوسف الشريف قبل هذا بسنوات، عن السودان واليمن، ورحلاته ومغامراته، فضلا عن كتاباته التوثيقية عن صعاليك الأدب وساخريه، وهو مجال كان الشريف بارعا فيه كتابة وممارسة.. كان خفيف الدم، حلو المعشر.. يكون سعيد الحظ من يرافقه فى رحلة سفر. وفى السفر هناك رفقاء يخففون الرحلة ويمنحون من يرافقهم شعورا بالونس.
لحظات واقترب منا الشريف بسرعة، وتعرف علينا وتعرفنا عليه، وصرنا أصدقاء، يحكى لنا بحميمية، جعلته قريبا من الجلد والروح. ظل طوال الوقت مبتسما، وكان مولعا بالتنكيت وأحيانا المقالب الصغيرة التى لا تجرح ولا تؤذى، وكان معنا عدد من رؤساء تحرير الصحف القومية الذين سافروا مع البعثة الرسمية وعادوا ليكتبوا مقالات عن الزيارة والبلد من خلال أوراق دعائية، ورغم أنهم لم يقضوا سوى لحظات برفقة الرئيس فقد عاد كل منهم ليكتب مقالا يشبه مقالات زميله رئيس التحرير، فكان تعبير يوسف الشريف أن الزملاء الكبار يتلقون مقالا واحدا مضروبا فى الخلاط. ورأى صحفيا كبيرا كان قد ألف كتابا دعائيا عن الدولة التى نزورها، فكان الشريف يداعبه وهو يسأله عن أشياء غامضة فى البلد: "مش انت تعرفهم أكثر ما يعرفوا نفسهم".
أصبح الأستاذ يوسف الشريف صديقا لنا وتواعدنا للقاءات فى القاهرة وقد حدث، وعملنا معه لفترة فى مكتب صحيفة الشرق القطرية بالقاهرة تحت إدارته، وحتى لما تركنا العمل لم تنقطع علاقتنا به ولم تتوقف ابتسامته كلما رآنا، وحتى لو التقينا فى مناسبة أو مؤتمر كان يوسف الشريف سباقا بالسلام الدافئ والقفشات خفيفة الدم.. وحتى عندما علمت بخبر مرضه قبل سنوات، وكان السرطان، وكلمته وأنا حزين فوجدته يخفف على، ويروى لى كيف استقبل الأمر بالسخرية، لدرجة أن الطبيب الذى كان مشغولا بتخفيف عملية إبلاغه بالمرض، كان يجلس أمام الشريف ليخفف هو عنه.
وظللنا نتهاتف أو نلتقى على فترات بعيدة، وكلما تحدث مع صديق مشترك، كان يقول له: عاوز أشوفكم ياولاد، كنا دائما على مواعيد، نلتقى فى بعضها، ونغيب عن البعض، لكننا لم نتوقف عن سيرته وكنا نتذاكر قفشاته ونكاته، أنا والصديق سعيد الشحات، قبل أن نتلقى خبر رحيله، حزنا، لأننا فقدنا أحد اساتذتنا الكبار، ولم نجد فرصة لنعبر له عن مشاعرنا وحبنا له.
كان الشريف أستاذا فى المهنة وفى الحياة، فى المهنة لأنه ظل حتى آخر أيام حياته، يعمل ويكتب عن قضايا عربية مايزال على اتصال بمصادرها، مثل قضية السودان أو اليمن اللتين كان أكثر من يفهم فيهما. وفوق الحياة كان يوسف الشريف أستاذا فى الإنسانية، باسما بشوشا ودودا. نشعر أننا رحلنا عنه، بينما هو لم يرحل عنا.
ومازلت أنتظر أن يقبل علينا باسما وهو يقول بود: أهلا أهلا.