فى طريقى للعودة لمنزلى بعد يوم عمل مزدحم وشاق، كنت حريصا ألا أنسى توصية ابنى بضرورة أن أشترى له علما كبيرا لمصر، لأن العلم الذى يلوح به فى البلكونة بعد كل انتصار للفريق الوطنى صغير، ولا يرفرف مثل الأعلام فى الاستاد، حمدت الله على وجود عدد كبير من الباعة فى الشوارع يرفعون الأعلام ملوحين بها أمام المارة، خاصة وأن الفاصل بين النهائى بين مصر وغانا ساعات لا أكثر.
توقفت لأشترى علما كبيرا، البائع يرتدى ترينج صينى الصنع، من تلك الموديلات التى تسمح للمصريين محدودى الدخل من الجمع بين الزى الرياضى والبيجامة وزى الخروج فى الوقت نفسه، الرجل موظف حكومى فى وزارة التعليم، من قرية بالشرقية، لكنه نزح للقاهرة بحثا عن فرصة أفضل للعمل، فى القاهرة التى يسميها تجاوزا " مصر" فدخل فى دوامة الإنفاق والمصروفات التى تتطلبها الحياة فى العاصمة العجوز، ولأن زوجته لا تعمل، يتحمل الرجل بمفرده عبء الإنفاق على البيت والأطفال الثلاثة، ومن هنا قرر عم محمود أن يكسب رزقه بعمل بزنس خاص صغير، عبارة عن صندوق خشبى به أكياس عسلية وأنواع من الحلوى البسيطة، وبمناسبة كأس الأمم الأفريقية وانتصارات المنتخب، وارتفاع الروح الوطنية، يمكن بيع أعلام للمشجعين الفخورين بانتصارات منتخبهم رغم أنف المنتخب الجزائرى وقناة الجزيرة.
الرجل أحضر لزوجته قماشا أحمر وأبيض وأسود من الموسكى، وقامت الزوجة بتفصيل الأعلام على مقاسين كبير بعشرة جنيهات وصغير بخمسة فقط، وابتسم الرجل قائلا، عشان كل الناس تشجع، وقبل أن ينتهى حديثنا وفرحتى بالعلم الكبير الذى سأدخل به على زياد ابنى متخيلا فرحته، هجمت عربة نصف نقل محملة بعساكر المرافق، على أعلام عم محمود وصندوق الحلوى الذى يحمله، كان هدف العساكر واضحا، خطف صندوق الحلوى والأعلام، وهذا ما حدث فعلا، وسط دهشة المارة الذين تجمعوا حول الرجل يواسونه وهو يهمهم، اتخرب بيتى، اتخرب بيتى، ويجمعون له ما تيسر ليستطيع تعويض ما تم سلبه من بضاعته.
قد يقول أحدهم، إن شرطة المرافق تقوم بواجبها فى تنظيم الشوارع، وواجبها منع الباعة الجائلين، لكن شرطة المرافق هذه لم تحرر محضرا للرجل، ولم تثبت بضاعته التى صادرتها، ولم تحدد قيمة المخالفة التى ارتكبها ولا جهة المحاسبة، ولكن عساكرها انقضوا على الرجل وخطفوا بضاعته وجروا بعربتهم، بل إن أحد العساكر فى معرض خطفه للأعلام من عم محمود كسر أحد الأعلام ومزق قماشه، فى الوقت الذى تتجاهل فيه احتلال أصحاب المحال للأرصفة وإشغالهم الطريق دون وجه حق .
يا سادة اتركوا باعة أعلام مصر يشغلون الطرق فى هذه الأوقات العصيبة، فهم بأعلامهم البسيطة يرممون انكسارات الروح الوطنية وتراجع الانتماء لدى الغالبية العظمى، اتركوهم يدفعون أعلام البلد إلى أيدى الصغار والكبار على السواء، فهم يفعلون ما عجزت عنه سياسات خرقاء ووزراء عاجزون عن الإبداع والابتكار.
باعة الأعلام يا سادة هم الذين يترجمون انتصارات المنتخب الوطنى إلى شعور حقيقى بالولاء لهذا البلد ،يمكن البناء عليه واستغلاله من خلال سياسات حكيمة، عبر عنها الفنان حلمى التونى فى إحدى رسومه بصحيفة الأهرام مهنئا لاعبى المنتخب ومتمنيا انتصارات مماثلة للبحث العلمى .. يارب ترتفع سياسات الحكومة الرشيدة إلى مستوى أداء المنتخب الوطنى أو تأثير باعة أعلام مصر فى الشوارع، خاصة وأنهم محميون من مطاردة عساكر شرطة المرافق.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة