ليس شرطاً أن تكون هناك مناسبة حتى نكتب عن الفنانة العظيمة شادية، فهى تستحق أن نكتب عنها فى كل وقت، وليس شرطا أن نبقى أسرى الكتابة فى أزمات مصر التى تنتهى، وننصرف عن كل جميل كما هو مع شادية.
يأتينى صوت شادية الجميل فى كل وقت حتى لو لم أسمعه مباشرة من الراديو، وحين يحلو لى الغناء مع نفسى، لا أجد أجمل من أغانيها: "غاب القمر يا ابن عمى.. دا النسمة آخر الليل بتفوت وتجرحنى" و"قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. أحسن حبيب القلب صابح ماشى" و"قال لى الوداع" و"خلاص مسافر" و"يا حبيبتى يا مصر" و"آخر ليلة" و"همس الحب"، و"يادى العذاب" و"عالى" و"بوست القمر" وغيرها من الأغنيات الرائعة.
انتبهت إلى شادية وأنا طفل صغير عام 1970، حين هرولت أمى على صراخ أمام دارنا، ولما خرجت أمى لاستطلاع الأمر، عرفت أن خالتى الكبرى (أطال الله فى عمرها) وقعت على الأرض بإغماءة مفاجئة تتطلب نقلها إلى الطبيب على الفور.
هرولت أمى إلى أختها وأنا أجرى من ورائها، كان بجوار خالتى راديو صغير لم يكن يعلم أحد أن سر الإغماءة جاء من عنده، ولما أفاقت خالتى انهمرت دموعها وهى تقول: "يا ولاد أنا افتكرت عبده لمل سمعت شادية بتقول "قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. أحسن حبيب القلب صابح ماشى"".
عبده الذى تذكرته خالتى بفضل صوت شادية، هو اسم الشهرة لعبد الحفيظ ابن خالى الكبير الذى كان مجنداً فى الجيش فى الجبهة الأمامية، وشارك فى حرب الاستنزاف، وكان يغيب بالشهور تاركاً القلق للجميع لأبيه وأمه وجدته وعمه وعماته، كنت أشاهدهم وهم يعدون أيام غيابه، وأكاد أسمع دقات قلوبهم كلما سمعوا خبراً عن استشهاد جنود فى الجبهة.
فى مقابل هذا القلق، كان الفرح يعم كل مكان فى دار خالى عبد الرحمن الكبيرة حين يعود عبده فى إجازة، وبفضله كانت تجهز جدتى أشهى الأطعمة، وكنا نحن أطفال العائلة نترقبها، بالإضافة إلى منحه القرش صاغ من خالى الكبير والد عبده "رحمهما الله" وخالى الثانى عبد العزيز أمد الله فى عمره، والمفارقة أن هذا الفرح كان يمتد إلى كل بيوت قريتنا "كوم الآطرون" مركز طوخ محافظة القليوبية، فالزمن لم يكن قد غدر بعد بمعانى الوفاء بين الأهل والأحبة، وكان صوت شادية انعكاسا صافيا لهذا الوفاء.
نقلت أغنية شادية خالتى إلى حيث الشوق إلى رؤية ابن شقيقها، وإلى حيث الخوف من مكروه قد يصيبه، ونقلتنى أنا إلى صوت هذه الفنانة العظيمة، ودفعتنى دفعا إلى الالتفات إلى الأغنية التى تسببت فيما حدث، ومن يومها سكن صوت شادية قلبى، حتى لو لم أكن وقتئذ أفهم كلمات أغانيها بحكم سنى.
ويوما بعد يوم كان صوت شادية يسرقنى، وينقلنى إلى فضاء واسع فى الإحساس، وإلى تذوق كلمات أغانيها، وطبيعة صوتها الذى تسمح قماشته لتلوينه كيفما يريد الملحن، فمع ملحن بقامة وعظمة بليغ حمدى، استطاع أن يستخرج منه مساحات الشجن الذى أحسسنا به فى أغنيات مثل "قولوا لعين الشمس ماتحماشى" و"آخر ليلة" و"خلاص مسافر"، وفعل هذا فى أغنية "يا حبيبتى يا مصر"، التى تترك أعظم الأثر فى المستمع المصرى، ليس بوصفها أغنية وطنية، فهناك عشرات الأغانى الوطنية التى ماتت بعد ساعات من إذاعتها، لكن بليغ فى "يا حبيبتى يا مصر"، وضع يده على مساحة الشجن الممزوج بالحماس الهادئ غير المفتعل فى صوت شادية، فجعل إحساس المستمع يفيض بالمشاعر كلما سمع لحن الأغنية، وأعظم ما فيها أنها أغنية ليست بنت مناسبة معينة، وإنما هى للوطن فى كل المناسبات.
وإذا كان عطاء العبقرى بليغ حمدى لشادية تمثل فى قدرته البارعة فى استخراج مساحات الشجن منها، فإن عبقريا آخر هو محمد الموجى، تجلت قدرته من خلال أغنيتها الرائعة "غاب القمر يا ابن عمى" فى وضع صوتها فى مساحة شجن أخرى، حيث امتزج الشجن بموسيقاه التعبيرية التى تميز بها بين ملحنى الموسيقى العربية الكبار، فالأغنية التى أبدع فى كتابتها الشاعر الكبير مجدى نجيب مليئة بالصور الشعرية، وواكبها الموجى بلحن تصويرى تشعر من خلاله بوحشة الليل وهمسه وظلامه وأضوائه، ورقة مشاعر الحب الصافى فى صدقه، ومع التموجات التى نلحظها فى صوت شادية فى كل مقطع من الأغنية، نتأكد أننا أمام لحن غير عادى وصوت غير عادى وكلمات غير عادية، وفى الإجمال أغنية عبقرية هى زاد لمشاعر الحب الصادقة، وصدق من قال: "يكفى محمد الموجى هذا اللحن".
ما فعله بليغ والموجى مع شادية تتجلى قيمته فى أنه لم يحصر صوتها فيما رآه البعض بأنها صوت "البنت الدلوعة" الذى يتجلى جماله فى الأغنيات الخفيفة السريعة، كما فى أغنيتها الجميلة: "يا نور عينيه وأكتر شوية.. يا عز عندى م الدنيا دى"، فهى صوت شامل يعبر عن الفرح وشجن الأحزان فى آن واحد.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة