حين تأتى سيرة رجل بقامة وقيمة المفكر الراحل الدكتور محمد السيد سعيد، يقف المرء حائراً حول ما يمكن التحدث به عن هذا الرجل العظيم، الذى اجتمعت فى شخصه خصال نبيلة، قلما تجتمع فى إنسان، وإلى جانب هذه الخصال تمتع بقدرة فائقة فى الجمع بين المعرفة الفكرية وتطويع هذه المعرفة لصالح مشروعه الفكرى الذى اهتم بكيفية النهوض الشامل لمصر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
كان أجمل ما فى محمد السيد سعيد هو وعيه الكبير بأن حديث المفكر والمثقف المهموم بقضايا التغيير، يكتسب قيمته ومصداقيته أكثر حين لا ينفصل أبدا عن الهموم الأساسية والحياتية للناس، وأن الحديث عن النهوض بالوطن يبدأ أولا بتوفير الحد الأدنى لحياة كريمة، وطبق محمد السيد سعيد تلك المعادلة بطريقته الخاصة، فرأيته مسئولا عن الكثير ممن ضاقت بهم الحياة إما فى فرص العمل، وإما فى صعوبة مواجهة المعيشة لأسباب كثيرة.
كان محمد السيد سعيد يفعل ذلك فى صمت، لكنك حين تراه يتحدث عن أزمة فلان أوعلان يبدو وكأنه يحمل هما فى صدره لن ينتهى إلا بحل تلك الأزمة، وفور نجاحه فى حلها تجد الصدر قد سكنه هما جديدا لشخص جديد، ربما يكون رآه بالصدفة فحكى له عما يعانيه فيتوحد معه ويبقى على موعد لا ينقطع إلا بحل أزمته، وكان الراحل الكبير يفعل ذلك بأجمل ما فى سلوك الإنسان وهو "أعط بيدك اليمنى دون أن تعرف يدك اليسرى".
عملت مع محمد السيد سعيد شهورا كنائب له فى مكتب جريدة البيان، كبرى الصحف الإماراتية، وذلك بعد سنوات من عملى مع نقيب الصحفيين الفذ جلال عارف فى نفس الموقع، ولطبيعة شخصية جلال عارف الراقية إنسانيا ومهنيا لم نكن نتصور أن هناك من يستطيع شغل مكانه، لكنه قال لنا قبل أن نعرف من سيخلفه، "سيتولى رئاسة المكتب من هو أجمل منى، وستجدون معه كل رعاية واهتمام"، وأتذكر أنه أجرى اتصالا، وبعد فترة قصيرة دخل محمد السيد سعيد ليقول لنا جلال عارف، "الدكتور محمد هو مدير المكتب الجديد"، وبدأت مسيرة العمل التى قاد فيها أكثر من 70 صحفياً، لنكتشف إنسانا راقيا أهدانا به الله، إنسانا قلبه عامر بحب الناس وبإيمان عميق بأنه مسخر لمهمة شعارها البسيط "إسعاد من حوله".
جمع محمد السيد سعيد بعقليته الفذة وذكائه الفطرى اللامع القدرة فى الجمع بين أصعب الأفكار والحديث عنها بغطاء يفيض ثقافة ومعرفة، ومع إعجابنا الشديد بها كنت أراها تنطق بأفكار صحفية لامعة، ولهذا كنت من هؤلاء الحريصين على الاستماع إليه كثيرا، وكان يفاجأ منى بأفكار صحفية من منطوق ما يقول.
ظل محمد السيد سعيد فى قيادته لنا، ولا أنسى يوم أن قرر استقالته من إدارة المكتب أرسل إلى الجريدة رسالة يزكينى فيها لخلافته بكلام طيب أحتفظ به كوسام لمسيرتى المهنية.
قبل ثلاثة أيام حلت الذكرى الأولى لرحيله، وشخصيا أصابنى غما كبيرا حين تلقيت خبر رحيله، وتجدد مع حلول ذكراه الأولى لأنه من صنف البشر الذى يشعر من يعرفهم بمعنى الفقد الحقيقى، فرحمة الله عليه، ورحمته علينا بالصبر من ألم فراقه.