لم أصدق نفسى حينما سمعت الفنان نجم الجيل "تامر حسنى" وهو يهدى جائزته الأخيرة الذى امتلأ مطار القاهرة بالمراهقين من أجل استقباله وهو عائد بها بين أحضانه للرئيس مبارك، لم أصدق أن النجم المغوار، المتهرب من الخدمة العسكرية، وقف أمام الشاشات ليهدى الجائزة للرئيس وللوطن.. وعدم التصديق هنا ليس مرجعه، لا سمح الله، ثقة فى تامر حسنى، ولكنه هذا التكرار المملل لتلك النغمة التى يعزف عليه كل فائز، وكل صاحب إنجاز فى مصر فى مشاركة واضحة لترسيخ فكرة البطل الأوحد، تلك النغمة التى أصبحت سائدة الآن التى تهدى للرئيس كل شىء وتنسب له أى شىء، بحيث أصبح كل السادة المسئولين يدورون فى فلك الرئيس ولا يتحركون إلا طبقا لخططه ولا يجتهدون سوى لتنفيذ برنامجه الانتخابى، ولا يتحدثون عن إنجاز إلا بعد أن ينسبوا فضل حدوثه للرئيس، ومثل المسئولين يفعل أغلب أهل الشارع فى مصر، فكل الأشياء الجيدة التى تحدث فى البلد يتم لفها وتغليفها وإهدائها للرئيس مبارك، بعد أن يتم نسب فضل حدوثها إلى تعليماته، يحدث ذلك فى الرياضة والاقتصاد والثقافة والسياسية والفن وفى الليل والنهار وفى جميع شهور السنة.
كل مصرى صاحب إنجاز تقابله كاميرا تليفزيون أو عدسة صحفية لتسأله عن إنجازه يبدأ حديثه بإهداء الإنجاز إلى السيد رئيس الجمهورية ومن بعده الشعب المصرى، لدرجة أن بعض القيادات المسيحية قالوا إن التجلى المتكرر للسيدة العذراء هو دلالة على حبها لمصر ودعمها للمسيرة التى يقودها الرئيس مبارك.
صحيح أن كثيرا من هذه الإهداءات تدخل تحت بند النفاق والموالسة، ولكن الظاهرة أصبحت ملفتة للنظر، فلا يمكن لأحد أن يتحمل ظهور الكابتن حسن شحاتة، المدير الفنى للمنتخب المصرى، عقب كل فوز للمنتخب المصرى سواء كان وديا أو فى بطولة رسمية ليهدى الفوز للرئيس مبارك قبل حتى أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم أو يشكر لاعبيه على الجهد المبذول، ففى 2006 أهدى الكابتن حسن شحاتة الفوز للرئيس مبارك، وفى 2008 فعل الشىء نفسه، وبالتبعية فعل عصام الحضرى بعد فوزه بلقب أحسن حارس فى إفريقيا للسيد الرئيس وأهدى حسنى عبد ربه فوزه بلقب أفضل لاعب للرئيس أيضا، حتى حينما هزمنا من البرازيل فى كأس القارات أهدى اللاعبون هزيمتهم ثم فوزهم على إيطاليا للرئيس مبارك، وهو الأمر الذى تكرر حينما فاز المنتخب فى مباراة الجزائر بالقاهرة وببطولة الأمم الإفريقية فى أنجولا.
من الواضح أن ابتاع أى إنجاز بإهداء للسيد الرئيس وشكر لدعمه وإشادة بحسن رعايته أصبح من الضروريات والواجبات المقدسة، وكأن من لا يهدى إنجازه للرئيس خائن أو ناكر للجميل.. وعلى هذا الأساس كان طبيعى أن ترصد وسائل الإعلام 12 إهداء للرئيس من بعثة أبطال دورة بكين البارالمبية التى تمكنت من حصد 12 ميدالية بينهم 4 ذهب، وأن يهدى لاعبو وجهاز فريق نادى الشرقية للهوكى الفائز ببطولة إفريقيا للأندية رقم 21 للمرة 18 فى تاريخه والعاشرة على التوالى كأس البطولة للرئيس حسنى مبارك راعى الرياضة والرياضيين فى مصر، وأن تعود بعثة المنتخب القومى لناشئات الإسكواش من الهند بعد فوزها ببطولة العالم للفرق، وتكون أو كلمات بناتها فى المطار هى إهداء الإنجاز للرئيس مبارك، حتى النادى الأهلى حينما فاز بالبرونزية فى كأس العالم للأندية لم يجد حرجا من أن يهدى مركزه الثالث للرئيس مبارك، بل وتفوق حسن حمدى رئيس النادى الأهلى على نفسه حينما قرر أن يهدى كافة انتصارات وإنجازات القلعة الحمراء للرئيس مبارك، على اعتبار أنه كان سببا رئيسيا فى حدوثها كما أكد وقتها.
وبعيدا عن الرياضة فى مجالات أخرى كان طبيعيا أن تشاهد بعينيك صحف الحكومة وهى تهدى للرئيس مبارك فوز الدكتور محمد البرادعى ومن قبله الدكتور أحمد زويل بجائزة نوبل، على اعتبار أنه راعى العلم والعلماء، وأيضا حصول محمود محيى الدين على منصب دولى تحول إلى إهداء للسيد الرئيس، أما الوزراء والمسئولين فقد اعتادوا على إهداء كل كوبرى جديد أو طريق حديث أو مستشفى جديدة للسيد الرئيس، حتى إن بعض رجال المعارضة اعتادوا فى الفترة الأخيرة على تصدير عدد من مقالاتهم بعبارة غريبة جدا تقول: "هذا المقال إهداء للسيد الرئيس من أجل الكشف عن حقائق كذا أو كذا".
كل هذا الكم من الإهداءات يأتى أغلبه من مبادرات فردية على ألسنة أشخاص مؤمنين بأن الموالسة أقرب طريق للوصول إلى قلب الحكم، وقد طور بعض الأشخاص طبيعة هذه الإهداءات فظهرت على هيئة لافتات تساند الرئيس وقت الشدة، وصور بعلو عمارات تزين الشوارع، وإعادة تعمير ميادين رئيسية تتصدرها صورة الرئيس وأسفلها جملة تقول: "إهداء من المعلم أو الحاج فلان الفلانى" الذى يكون إما عضوا فى الحزب الوطنى أو نائبا فى البرلمان أو طامع فى الاثنين.
وبعيدا عن التفسيرات السياسية والاجتماعية لفكرة الرئيس الذى نهدى له كل شىء، وبدون بحث عن إجابة لسؤالين يقولان: لماذا نهدى للرئيس كل شىء وأى شىء؟ وهل فعلا يتمتع الرئيس، أى رئيس، بكل هذا الامتنان الشعبى الذى يدفع الناس لشكره وإهداء تعبهم له على طول الخط؟
تبقى فكرة الهدية نفسها فكرة لطيفة إذا اعتبرنا أنها تطبيقا للمبدأ النبوى "تهادوا تحابوا"، ولكن هل يمكن أن يحدث هذا الحب إذا كانت كل الهدايا تسير فى طريق واحد؟ هل يمكن أن يحدث الحب دون تبادل العطاء؟ أعتقد أن الفقراء ومرضى السرطان والفشل الكلوى والكبد وموتى الجوع، والممتلئة بطونهم بماء المجارى وخضروات الصرف الصحى يمكنهم أن يصبحوا مقدمات للإجابة على الأسئلة السابقة، ويمكنهم أن يخبروك أيضا أن مسألة الإهداءات هذه ما هى إلى طوبة فى بناء كامل اسمه الرجل الأوحد.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة