الحكومات المصرية المتعاقبة خلال الخمسين سنة الأخيرة، لديها ولع متوارث بإنشاء الأجهزة والهيئات الإدارية التى تبدو فى الظاهر آليات ضخمة لحل المشكلات، بينما هى فى حقيقتها جزء من المشكلة التى تنتج عن التفكير البيروقراطى العقيم تجاه قضايا الواقع.
"بمعنى آخر"، بدلاً من مواجهة الأسباب الحقيقية لنشوء مشكلة يترتب عليها معاناة شرائح كبيرة فى المجتمع، تتخذ الحكومة قراراً بإنشاء هيئة أو جهاز لمواجهة هذه المشكلة ، وعندها تنعقد اجتماعات وتُدار جلسات ويلتقى ممثلون عن وزارات مختلفة، ثم يولد الجهاز أو الهيئة، ومعه الكثير من المسميات الجديدة والموظفون الجدد وبدلات الاجتماعات والمرتبات الجديدة، وتبقى المشكلة على حالها إن لم تستفحل!
آخر المواليد فى ماكينة البيروقراطية المصرية العريقة لم يأت بعد، ولكن مخاضه ظهرت علاماته، وأعنى به الجهاز التنفيذى لتنظيم إنتاج الخبز، المقرر عرضه على مجلس الوزراء خلال الفترة المقبلة، بهدف وضع آلية للتحكم فى إنتاج الخبز المدعم، بحسب تصريحات وزير التضامن الدكتور على المصيلحى.
لا أدرى إذا ما كان أصحاب فكرة "جهاز الخبز" مقتنعين حقاً بجدوى وفاعلية الجهاز المقترح، خاصة وأن عمليات تهريب الدقيق المدعم من الأفران لبيعه فى السوق السوداء قد انتهت، أو تراجعت بصورة كبيرة بعد عملية فصل الإنتاج عن التوزيع، وإنشاء "شركة المصريين" التابعة لوزارة التضامن لتوزيع الخبز، أى أن الوزارة تسلم الأفران حصة محددة من الدقيق تحت إشرافها ومراقبتها، وتتسلم منها عدداً محدداً من الأرغفة، تنتقل إلى أكشاك التوزيع ومنها إلى المواطنين، وبالتالى انتهت المشكلة الرئيسية المتعلقة بتسرب الدعم الموجه لرغيف الخبز.
إذن ما المشكلة؟
المشكلة أن "صناعة الخبز المدعم" بحسب التسمية الحكومية الشائعة تستولى على ما يقارب 15 مليار جنيه دعماً، وهو مبلغ كبير تقلب الحكومة نظرها فيه وتحرك شفتيها تجاهه وتفرك يديها للانقضاض عليه، لسد فجوات عجز الموازنة، وردم هوة التضخم التى تتسع باطراد حتى أحرقت المواطن البسيط بنيرانها المتجلية فى أسعار جميع السلع والمنتجات!
انظر وتمعن فى التبريرات الحكومية لإنشاء "جهاز الخبز" من خلال تصريحات المسئولين ..
- "الهدف من إنشاء هذا الجهاز هو تبسيط اتخاذ القرارات المتعلقة بإنتاج الخبز، وسرعة إصدارها دون الحاجة للرجوع إلى عدة هيئات، لأن الخبز هو أكبر صناعة فى مصر".
- "وجود حلقات متشابكة بين هيئات حكومية مختلفة، أدى إلى ضعف منظومة إنتاج الخبز، وعدم إحكام السيطرة عليها، لذلك وجب مواجهة الضعف بإنشاء جهاز تنظيم عملية إنتاج الخبز المدعم ".
- "جهاز تنظيم إنتاج الخبز سيتبنى تحويل المخابز الصغيرة الموجودة فى منطقة واحدة إلى كيان كبير أو مصنع واحد للإنتاج، يتم فيه جمع حصص الدقيق المدعم الموجهة لكل مخبز، ليتم إنتاج الخبز آلياً، وتغليفه قبل توزيعه على المواطنينط
بالله عليك ماذا تشم من وراء هذا التفكير الإسكندنافى الأوتوسترادى المحورى الدائرى؟!
لدينا حوالى 22 ألف وخمسمائة مخبز، معظمها مخابز قريبة من المدافن والعشوائيات والحارات والشعبيات التى تم إهمالها لتنمو دون تخطيط أو رعاية، وعندما تفكر الحكومة فى تجميعها فى كيانات كبيرة أو مصانع مجمعة لإنتاج الخبز وتغليفه نكتشف فوراً أن هذه الحكومة ومستشاريها مستوردون بالكامل، ليس لهم علاقة بهذا البلد وطبيعته الجغرافية والديموجرافية أى توزيع الناس على حاراته وعششه ومدافنه المأهولة وعشوائياته.
أيها السادة الوزراء المبجلون، لن تستطيعوا تنفيذ هذا "البلان" إلا فى مدن الصفوة والتجمعات السكانية الجديدة، بشرط أن تكون متقاربة ومأهولة فعلاً بالمواطنين الذين يستحقون الرغيف المدعم، قولوا إنكم طامعون فى دعم الخبز وريحونا، وسيبوا المخابز العشوائية تنتج للمواطنين العشوائيين فى المناطق العشوائية خبزاً عشوائيا... والسلام.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة