كل هذا الارتباك الحاصل على الساحة السياسية المصرية يفتح الباب لكل الاحتمالات.. والمقصود بالاحتمالات هنا لا يشمل بالطبع إمكانية استحواذ تيار سياسى آخر على السلطة كبديل للحزب الوطنى أو المنظومة السياسى التى تحكم الآن..
حسابات القوة والضعف والقدرة على تحريك الأجهزة الأمنية والسيطرة على وسائل الإعلام تغلق باب الاحتمالات بخصوص هذا الأمر.. أمر صعود تيار آخر غير الحزب الوطنى أو السلطة التى يعبر عنها لمنصة الفوز أو إدارة دفة الحكم فى البلاد.. ولكن نفس الحسابات تترك باب الاحتمالات الخاص بظهور لاعبين سياسيين جدد على الساحة مفتوحا أمام قوى جديدة أو عودة لاعبين سياسيين عاشوا الفترة الماضية حالة بيات سياسى أو أمنى.
انظر إلى وضع الأحزاب المصرية، خاصة الأحزاب الكبرى الناصرى والوفد والتجمع وركز قليلا مع فخ الارتباك الذين سقطوا فيه وعدم قدرتهم على تنسيق وتشكيل جبهة انتخابية قوية مضادة للحزب الوطنى فى الانتخابات، وانظر إلى حالة جماعة الإخوان المسلمين التى تشهد ولأول مرة وضع فوضوى وانشقاقى يهدد بمسيرتها فى الانتخابات القادمة، وانظر إلى الوضع الاحتضارى الذى تعيشه جمعية التغيير وستعرف أن احتمال ظهور قوة مختلفة أو عودة قوة قديمة أمر وارد جدا طالما أن الموجودين على الساحة يعانون من كل هذا الضعف..
أنا أتحدث عن الجماعة الإسلامية تحديداً عن هؤلاء الذين أرهقتهم السجون والمعتقلات والحصار والمراقبة لسنوات طويلة وبدأوا يستعيدون طاقتهم الآن بعد فترة الهدنة الطويلة مع الدولة والتى عرفت فكرياً باسم "المراجعات"، متابعة التصريحات الأخيرة لقادة الجماعة الإسلامية أو رموز الجهاد أو المقربون منهم لا يمكن أن ستخلص منه شيئا آخر سوى أن الجماعة قررت العودة، ولكنها لم تحدد شكل العودة بعد، وهل يمكن للجماعة بعدما أراقت كل هذه الدماء وقلبت الأوضاع رأسا على عقب فى مصر فى الثمانينيات والتسعينيات ألا تعود؟ هل يمكن للجماعة التى خلقت كل هذه الضجة أن يكتفى رموزها بالجلوس فى المنازل وقراءة القرآن؟ هل يمكن لهؤلاء الرموز الذين كانوا ملء السمع والأبصار أن يكتفوا بالظهور فى المواسم أو يعتزلوا الحياة السياسية والدينية التى كانوا نجومها إلى الأبد؟.
بالطبع لا، وهذا هو ما وضح فى تصريحات ناجح إبراهيم الأخيرة التى قال فيها إنه لا يستبعد عودة الجماعة للمشاركة السياسية مرة أخرى ولكنه اعتبر المرحلة الحالية غير مناسبة للعودة الآن، وأرجع ذلك إلى أن المشاركة السياسية للحركة الإسلامية خلال الظرف الراهن لن تكون فعالة وناجحة إلا إذا توقفت الحرب الباردة بين الحكومة والحركة الإسلامية وسادت حالة من التفاهم بينهما.
هو إذن لا ينفى مبدأ العودة، ولكنه ينتظر الوقت المناسب، أو إن شئنا الدقة هو ينتظر من الدولة الضمانات المناسبة التى تحفظ للجماعة عودة سلمية بلا معتقالات أو ملاحقات، هذه الرغبة فى العودة والتى ظهرت فى كلام قيادى الجماعة الإسلامية تعكسها التصريحات التى أطلقها رموز الجماعة فى الشهور الأخيرة والتى تبلغ ضعف التصريحات التى أطلقوها فى السنوات الثلاث الماضية وتخالفها الاتجاه تماما، فبعد أن كنا نسمع فى السنوات الماضية عن حالة عزلة اختيارية وإجبارية ورغبة فى عدم الاقتراب من العمل السياسى مرة أخرى ورفض رموز الجماعة أو رجالها الظهور الإعلامى والتعليق على الأحداث السياسية، عدنا لنقرأ تصريحات سياسية على لسان ناجح إبراهيم أو كرم زهدى أو فضل أو غيرهم عن استعدادهم للتعاون مع رئيس مصر المقبل ورفضهم للعصيان المدنى وللدكتور البرادعى وقبل كل ذلك دورهم فى انتخابات نقابة المحامين الأخيرة ودورهم فى تسيرها وترددهم بين المشاركة الصريحة أو التأثير والمتابعة من بعيد.
الفترة الأخيرة شهدت تصريحات كثيرة بهذا الشكل، فلم يترك رموز الجماعة حدثا معين إلا وأخرجوا ببيانات إعلامية وتعليقات سياسية تنتقده أو تؤيده بداية من ذكرى نصر أكتوبر ومرورا بالفتنة الطائفية وانتهاء بشيخ الأزهر وموقفه من الشيعة، هذا الظهور المكثف بعد فترة الغياب أو العزلة يدعم بقوة فكرة رغبة الجماعة فى العودة إلى الساحة السياسية مرة أخرى أو يلفت الانتباه إلى أن الدولة نفسها رفعت يديها عن أفواه رموز الجماعة رغبة منها فى استخدامها خلال الفترة القادمة، لا تستبعد تلك النظرة التآمرية من خيالك لأن الدولة التى تبحث الآن عن كل الإجراءات التى تضمن لها مرورا هادئا للانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة قد تلجأ إلى الجماعة الإسلامية لضرب الإخوان، خاصة فيما يتعلق بالجزء الخدمى أو الدعوى الذى فشلت فى الإجهاز عليه حتى الآن، لا تستبعد أبدا أن تقوم الدولة بمواربة الباب لكى يظهر منه بعض رموز الجماعة الإسلامية والجهاد المعروفين بكرههم للإخوان على ساحة الدوائر الانتخابية الساخنة التى يملك فيها الإخوان مرشحون أقوياء.
عموما يمكنك أن تلغى وجهة النظر التآمرية السابقة من أجندة الحديث تماما إذا كنت تستبعد فكرة التنسيق بين الدولة والجماعة الإسلامية، وتعال نتبع تفاصيل وجهة النظر الأخرى التى مازالت تشكك فى جدوى عملية المراجعات التى بدأت فى عام 1997ولم تعيرها الدولة اهتماماً إلا فى عام 2002 ثم بدأت تتعامل معها على أنها إنجازها الخاص دون أن تقدم لنا أى دليل مطمئن على فعاليتها، خاصة بعد تكرار حوادث التفجيرات فى الحسين والأزهر ووسط البلد والتى أشارت كافة المؤشرات إلى أنها من تنفيذ خلايا صغيرة نائمة تؤمن بأفكار الجماعة الإسلامية والجهاد.
الأفكار قد تكون نائمة إذن.. والأجواء الارتباكية التى تعيشها الدولة المصرية الآن تساعد على خروج كل من كان يكمن فى جحر هنا أو جحر هناك، أضف إلى ذلك تلك النهضة السلفية التى يعيشها الشارع المصرى وستجد نفسك أمام أجواء مناسبة تماما لعودة الجماعة الإسلامية سواء بأفكارها القديمة عبر خلايا كانت نائمة ومنحهتا حالة العزلة والبيات الشتوى فرصة للتطور واكتساب المزيد من القوة أو قد تكون عودة بأفكار أكثر تطورا بعيدة عن العنف وتلائم طبيعة المرحلة وتستغل حالة المد السلفى التى تشهدها شوارع مصر لبناء شعبية جديدة لتيار سياسى إسلامى جديد يحل محل الإخوان ويتفوق على الأحزاب فى الانتشار.
كل أبواب العودة مفتوحة إذن أمام الجماعة الإسلامية، أن تعود فى كنف الدولة ويتم استخدامها فى ضرب جماعة الإخوان المسلمين، أو تعود على هيئتها القديمة عبر تلك الخلايا النائمة التى أزعجتنا الفترة الماضية بضرباتها العشوائية، أو تعود بأفكار أكثر تطورا مع جيل جديد فى الصدارة يسعى لاستغلال حالة النهضة السلفية التى صنعتها الفضائيات الدينية والجمعيات الشرعية التى منحتها الدولة فرصة السيطرة على المساجد فى السنوات الأخيرة، أو قد تفجر الجماعة المفاجأة وتعود عنداً فى الدولة مقدمة يد العون للإخوان أو مرشحى المعارضة فى الانتخابات القادمة كنوع من الانتقام لسنوات الاعتقال والقهر الماضية.