نعم لاستقلال الجامعة.. ولكن بمشروع حقيقى وفاعل، وبتغيير شامل للائحة الطلابية، وبتغيير أشمل فى مجتمع هيئة التدريس، فإذا كانت العقول التى تلقى العلم للطلاب حبيسة وكسيرة الجناح، فما الذى يفيدنا فى أن يمضى العساكر إلى ثكنات الأمن ويبقى الحرس على العقول والضمائر.
(محلولة صدقنى).. ستقول الحكومة إنها ملتزمة بحكم القضاء بإلغاء الحرس الجامعى.. وستقول الحكومة إنه لا صوت يعلو فوق صوت منصة العدالة.. ثم فى الوقت نفسه.. ستقوم الحكومة بتغيير الملابس الميرى لحراس الجامعة من وزارة الداخلية، وفرض ملابس مدنية جديدة من عينة الملابس التى يرتديها جنود الأمن المركزى حين يحاصرون مظاهرات سلم النقابة.. وبدلا من أن يقف الحراس الميرى على بوابات الجامعات المصرية سينتشرون بين الطلاب فى قاعات المحاضرات والممرات، ومحال الأطعمة.. ستعلن الحكومة رسميا نهاية الحراس الميرى.. لكن الحراس سيبقون إلى الأبد.. فمن ذا الذى يستطيع هنا وفى قلب السلطة أن يعيش اليوم بلا حراس ؟!
أقول لك (محلولة صدقنى).. سوف يخططون لاستبدال الحرس الرسمى بحرس ظاهره الرحمة وباطنه من قبله القسوة والبطش.. أو يستبدلون الحراس الرسميين بحراس من أساتذة العلم فى قاعات المحاضرات.. يبدو أحيانا أن هذا هو الحل الأعظم.. فالحراس الميرى لا يراقبون إلا الظاهر من العمل.. ندوة، أو تجمعا طلابيا، أو معرضا للصور، أو أسرة على غير هوى الأمن، لكن الحراس من أصحاب الياقات البيضاء من حملة شهادات الدكتوراه هم أشد خطرا وفتكا واستبدادا.. هؤلاء الحراس الذين يراقبون ما فى العقول، أو يمارسون التزييف على ما فى العقول، وهؤلاء الحراس من أساتذة الجامعات لا يرقبون فى الطلاب إلّا ولا ذمة، يطاردون الأفكار كما تطارد الضباع شياها ضالة، يوصدون أبواب الحرية والاختلاف والرأى والرأى الآخر، لأنه لو كان هناك رأى آخر ما وصل بعض هؤلاء الأساتذة لما بلغوه من مكانة، يكرهون كرامة الطلاب، ويحقدون على تمردهم الجميل، لأنهم كبلوا أنفسهم بالسمع والطاعة لأولى الأمر طوال سنوات حياتهم، فإذا ما رأوا زهرة تتفتح من بين الطلاب دهسوها بأحذيتهم، وإن نبتت فكرة مثمرة من ضمير حر كتبوا فيها التقارير، وفرشوا لها الأرض بالخوازيق الحديدية.
الحرس الجامعى بالملابس الميرى التابع لوزارة الداخلية ليس هو الحرس الأخطر على طلاب مصر، فهؤلاء هم رقباء العلن الذين يجيد الطلاب خداعهم ببراعة، وتراكمت فى الحركة الطلابية سبل الالتفاف عليهم فى المظاهرات والوقفات الاحتجاجية والانتفاضات الطلابية الكبرى، الحرس الجامعى الميرى لا يمثل المعركة الحقيقية لحرية العمل الطلابى، ولا يشكل العقبة الأولى فى استقلال الجامعات، لكن الحرس الحقيقى الذى يمثل سدا منيعا هو بعض هؤلاء الأساتذة الذين يعيش الحرس فى ضمائرهم وقلوبهم، وحملة الدكتوراه الذين يخاصمون الفكر والحرية، فلا ينتظرون سوى قرارات الترقية الجامعية، وبدلات المحاضرات، ويختزلون العلم بكامله فى بيع المذكرات والمختصرات والدروس الخصوصية.
أنا أطالب بإعادة تعريف هذه المعركة الطلابية من جديد، فالحكم الذى أصدره القضاء الإدارى بإلغاء حرس الجامعة يمثل انتصارا قانونيا مهما، لكنه لا يعبر عن استقلال حقيقى للجامعات، لأننا (أنت وأنا) نعرف أن للحرس الميرى ألف شكل وألف لون، أما الاستقلال الحقيقى فهو فى العقول، وما دامت عقول النخبة الأكبر من أساتذة الجامعات أسيرة لهوى ذوى السلطة والنفوذ، ولا تحلم بأكثر من منصب فى وكالة أو عمادة للكليات، فإنه لا يوجد استقلال ولا توجد حرية.
الطلاب الذين يناضلون ضد حرس الداخلية أمام الجامعات، يختزلون الأمر بكامله فى هؤلاء الذين يرتدون الملابس الميرى، لكنهم لا ينظرون إلى هؤلاء الذين تسكن فى داخلهم القضبان من أساتذة الجامعة، وهؤلاء الذين أخفقوا فى تحويل جامعات مصر إلى ساحة للحرية العلمية والفكرية، أسأل نفسى: لماذا يبقى أمر استقلال الجامعات فى دائرة الحرس الجامعى فى حين أن أساتذة الجامعات أسرى بقرارات من وزير التعليم العالى، أو أسرى لرئاسة الجامعات، أو أسرى لرتب أعلى خارج أسوار الجامعة ؟
استقلال الجامعة معركة أكبر وأشمل من إلغاء الحرس، فالحراس الميرى قد يجدون تبريرا لهم فى الحفاظ على المنشآت العامة من العدوان أو الانتهاك أو السرقة، لكن حراس الضمائر والأفكار لا مبرر لهم، يعرفون الحق وينكرونه، ويعرفون الحرية ويحبسون رائحتها عن الطلاب فى قاعات المحاضرات، أو فى الأروقة العامة، أو فى المنتديات الطلابية.
استقلال الجامعات هو فى استقلال هيئات التدريس الجامعية من السيطرة الكاملة على الأفكار، واستقلال الجامعات هو فى عودة الحرية للحوار والرأى والرأى الآخر، وليس فقط فى إلغاء الحراس الميرى على البوابات الحديدية.
استقلال الجامعات معركة حقيقية، لن يتحقق إلا إذا صارت الحركة الطلابية تيارا دائما يترقى من صفوف الطلبة إلى صفوف المعيدين والأساتذة، فلن تشهد جامعاتنا تطورا حقيقيا بدون استقلال فكرى حقيقى، ولن تشهد جامعاتنا استقلالا فاعلا إلا بالحرية الكاملة لمجتمع هيئة التدريس، وبرقى مهنى ووظيفى وفكرى لهذا المجتمع العلمى العريض، أما إذا كان أقصى طموح الأساتذة هو منصب مستشار فى أى من الوزارات الحكومية، أو عضوية لجنة مهمة فى حزب سياسى نافذ وكبير فإن إلغاء الحرس الميرى لن يسمن أو يغنى من جوع.
كنت طالبا فى عام 1993 حين رفعنا شعار إلغاء الحرس الجامعى، هذا الشعار كنا قد ورثناه نحن الطلاب عن الجيل السابق، والجيل السابق ورثه عن الجيل الذى يسبقه منذ لائحة 1979، لكننى أعترف أننا كنا نفكر فى الاتجاه الفرعى وننسى الأصل، فالأصل هو أن يتحرر الفكر الجامعى من الأساس، وأن تملأ روح الحرية أعضاء هيئة التدريس، فما الفائدة إن لم أجد حرسا على باب الجامعة ثم وجدت الحرس فى ملابس أستاذ الجامعة؟ وما الفائدة إن أطحت بالحرس من ساحة الحرم الجامعى ثم وجدته جاثما على صدرى فى النقاش العام داخل المنتديات الطلابية، وفى الانغلاق الفكرى بين الأساتذة أو بين التيارات الأكثر تشددا فى الجامعة؟
نعم لاستقلال الجامعة.. ولكن بمشروع حقيقى وفاعل، وبتغيير شامل للائحة الطلابية، وبتغيير أشمل فى مجتمع هيئة التدريس، فإذا كانت العقول التى تلقى العلم والمعرفة للطلاب حبيسة وكسيرة الجناح، فما الذى يفيدنا فى أن يمضى العساكر الميرى إلى ثكنات الأمن المركزى ويبقى الحرس على العقول والضمائر.
مش قلت لك (محلولة صدقنى) لن تجد الحكومة أزمة تذكر فى مواجهة الحكم القضائى.. فالحرس هناك حتى إن لم تره عيناك!
خالد صلاح
خالد صلاح يكتب: الحرس الجامعى.. حرّاس الضمائر والأفكار أشد خطراً
الأربعاء، 27 أكتوبر 2010 10:41 ص