كانت الجماعة الإسلامية فى جامعات مصر فى السبعينيات وما بعدها تعبيرا عن «حالة» تقودها إلى الارتداد لمفاهيم الإسلام والتمسك بقيمه وخصاله وأخلاقه، فعاد الحجاب يتبوأ مكانته فى ثقافة المرأة المسلمة، وتحولت اهتمامات الطلاب فى جامعات مصر من أقصاها إلى أقصاها للغوص فى كتب السير والتراجم والسيرة النبوية يتعرفون على أجدادهم الذين سادوا الدنيا وملكوها حتى صارت فى أيديهم ولم تنل من قلوبهم، وعرف شباب مصر بعد حرمان طريقهم إلى المكتبة الإسلامية وأصبحت المطبوعات الدينية أكثر بيعا وانتشارا ومصدرا لثراء أصحاب المطابع ودور النشر.
كانت تلك الوسائل فى التواصل قد طرقت قلوب الناس وفتحتها للخطاب الإسلامى الجديد، كانت الجموع لم تزل تذكر محنة الإخوان المسلمين ومن ثم غير قادرة على قبول أى شعار للإخوان فى تلك الفترة، وأصبح لقب «الجماعة الإسلامية» مقبولا من الجماهير، تحنو معه للإسلام الذى غاب عن مصر طويلا.
مارست الجماعة الإسلامية العمل السياسى بأطر فضفاضة دون قوالب أو فلسفات أيديولوجية، كان خطباؤها يدغدغون عواطف الناس فى المساجد التى سيطروا عليها سواء فى الجامعة أو خارجها، أصبحت مساجدهم قبلة المصلين تؤمهم بالآلاف، وأصبحت أيضا مراكز طبية ومؤسسات اجتماعية تقدم الخدمة للناس للفقراء دون أن يكون مقابلها «الصوت الانتخابى».
أدرك قادة الإخوان وقتها قيمة الجماعة الإسلامية فسعوا إلى التغلغل داخلها والسيطرة على بعض رموزها، ونجحوا كثيرا فى بعض محافظات الوجه البحرى والقاهرة، بينما صادفتهم مشكلات كثيرة فى الوجه القبلى، شطر كبير منها راجع لوجود نشطاء الجماعة داخل مدنه ومحافظاته وقراه كرم زهدى وصلاح هاشم وناجح إبراهيم وعاصم عبدالماجد ورفاعى طه، كثيرون يصعب علينا حصرهم كانوا خطباء نجباء ذوى حسم.
انقسمت «الجماعة» وبينما اندمجت عناصر «الوجه البحرى» داخل نسيج الإخوان ووسائلها وأدواتها، مارسوا معها النشاط الطلابى ثم العمل النقابى فى النقابات المهنية ثم العمل السياسى بدخولهم الانتخابات البرلمانية، متحالفين مع الوفد عام 84 ثم مع العمل والأحرار 87.
بقيت «الجماعة» فى الصعيد تسيطر على الجامعة وخارجها بخطاب إسلامى سلفى، لكنه يتماشى مع اهتمامات الناس واحتياجاتهم، كان خطاب «الجماعة» سياسيا ومجتمعيا يمارس الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، لكنهم وقفوا فى مسافة تبعدهم عن سلوك سبيل العمل البرلمانى وخوض الانتخابات ودخول البرلمان، بل اعتبروا سلوك ذلك السبيل محاداة لله ولرسوله.
تخلى الإخوان عن شعار «الجماعة الاسلامية» الذى أصبح خالصا لأصحابه، وترأسها الدكتور عمر عبدالرحمن، وكان تحته نخبة من النشطاء الحركيين، أبرزهم محمد عبدالسلام فرج- رحمه الله- الذى حكم عليه بالإعدام فى قضية اغتيال الرئيس السادات ونفذ فيه، وعبود الزمر وكرم زهدى وطلعت فؤاد قاسم وآخرون بارزون.
أصدرت الجماعة الإسلامية فى 27 فبراير 1984 من داخل سجن طره ميثاقها الذى يحكم ضوابط العمل الإسلامى حسب مفهومها، قالت فيه: «وحق التشريع غير ممنوح لأحد، لا للخليفة، ولا لأهل مشورته، ولا للبرلمان، ولا لحزب، ولا لمجموع الأمة، بل هو خالص لله تعالى».
كما أصدرت بحثها الشهير «حتمية المواجهة» عام 87، أكدوا خلاله سلوكهم ذات السبيل: «الدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد فى سبيل الله من خلال جماعة منضبطة بالشرع الحنيف تأبى المداهنة والركون، وتستوعب ما سبقها من تجارب».
كانت للجماعة إسهامات فى الحياة السياسية فى مصر، ولها إصداراتها التى تصدرها تباعا، جرت على منبر نقابة المحامين مساجلة شهيرة بين أمير الجماعة الاسلامية د. عمر عبدالرحمن والشيخ صلاح أبوإسماعيل- رحمه الله- حول شرعية دخول مجلس الشعب، أكد فيها عبدالرحمن بطلان تلك الدعوة وعدم شرعيتها، بينما أصر أبوإسماعيل أن دخول الإسلاميين مجلس الشعب هو طريق من طرق الدعوة وإصلاح القوانين وتنقيتها مما يخالف الشريعة، وانتهت المناظرة بغضب أبوإسماعيل وانصرافه.
غير أن «الجماعة» فاجأت الدنيا بمبادرتها السلمية بوقف العمليات المسلحة فى الخامس من يوليو 97، واعقبها المراجعات وهو ما أكد أن الجماعة منسجمة مع نفسها ومع الناس عندما عبّرت بوضوح عن الموقف من أبحاثها وكتاباتها القديمة بقولها: بداية، ينبغى أن يكون مفهوما أن منهجنا وفكرنا هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بفهم سلفنا الصالح.. بمعنى أنه لا قدسية لأى كتابات تلزمنا كمسلمين أن ندور حولها ونثبت عليها ولا تقبل أن يقع عليها أى تغيير أو تحويل إلا الكتاب والسنة، أما ماعدا ذلك من اجتهادات البشر وكتاباتهم فليس لها أى قدسية تعصمها من التقويم والتصحيح على وفق ذلك النهج السديد والصحيح فيها ما وافق الكتاب والسنة، أما ما خالفهما فلا يلزمنا.
أما الثانية فهى أن كثيرا من الأشياء والكتابات يتعامل معها البعض باعتبارها ثوابت لا ينبغى التعرض لها بتبديل أو تعديل أو تقويم، وهى فى حقيقتها لا تتمتع بهذه الخاصية. وإنما ظن من ظن ذلك لطول إلف أو كثرة تكرار أو لعدم الاطلاع على مخالف لها أو لتقديره وثقته فيمن كتبها، أو لفقدان الثقة فيمن خالفها، أو لغير ذلك من الأسباب التى تخرج هذه الأفكار والاجتهادات عن وضعها الطبيعى كاجتهادات بشرية قابلة للمخالفة فى نظر البعض.
أما الثالثة فإنه لا يضر العالم المجتهد أن يرى الحق فى غير رأيه الذى ارتآه، فيترك رأيه ويعود للحق ويصوب ما كان يراه خطأ، ولا ينتقص ذلك من قدره كعالم مجتهد.
ثمة إشارات من داخل أروقة «الجماعة» تنبئ عن تغير موقفها أيضا بطريقة وأخرى، فمن جهة تواصل نفر من أبنائها مع الاهتمامات النقابية وخاض بعض المحسوبين عليها انتخابات نقابة المحامين الماضية دون أن يتسبب ترشحهم فى أزمة داخلية، لم توافق الجماعة على ترشحهم باسمها رسميا، لكنها أيضا لم تمنعهم، لكن تبقى الإشارة الأقوى التى وردت فى مقال لمُنظر الجماعة الأبرز د.ناجح إبراهيم على صفحات نشرتها الإلكترونية التى دعا خلالها الحركة الاسلامية إلى نفض يدها ولو لبعض الوقت من العمل السياسى، إذ جربت الحركة الإسلامية طوال ثمانين عامًا كل أشكال الصدام، والمواجهة مع الدولة سواء بالصدام العسكرى الساخن، أو الصدام السياسى البارد، ولكنها لم تحقق شيئًا يذكر، أو نتيجة ملموسة من هذا الصدام, بل دائما بقيت متهمة بأنها تريد أن تقفز على السلطة، والأرجح أنها لن تصل إلى الحكم فى هذه الأيام على الأقل، وإذا وصلت إليه أجبرت على تركه.
أظن إذن أنه يتعين غلق كل التكهنات التى تتردد من حين لآخر عن خوض الجماعة الانتخابات كبديل عن الإخوان أو متصادمين معها لحساب دوائر رسمية، فالجماعة مغلقة للتحسينات سياسيا حتى إشعار آخر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة