أشعر أننى مدينة لهؤلاء البشر الذين يعيشون على هامش الحياة والذين لم أمنحهم سوى تعاطفى وبضع أيام اقتحمت خلالها وطنهم المحاصر لأكتب عن حياتهم داخل أسواره فكانوا أكرم منى ومنحتنى الكتابة عنهم جائزتين خلال أسبوع واحد إحداهما جائزة من جوائز التفوق الصحفى التى تمنحها نقابة الصحفيين، والأخرى رحلة عمل وتدريب فى أمريكا بعد الفوز فى دورة تدريبية نظمتها نقابة الصحفيين مع برنامج تطوير الإعلام، إنهم مرضى مستعمرة الجذام الذين لا يعرف عنهم الكثيرون شيئا، بشر يعانون الألم والعزلة جمعهم المرض فى هذا المكان البعيد المعزول فى منطقة أبى زعبل على أطراف محافظة القليوبية وترك على أجسادهم ووجوههم تشابها كتشابه الأشقاء، قضوا أغلب سنوات عمرهم فيه بعد أن نبذهم أقرب الأقربين خوفا من العدوى، منهم من قضى ما يزيد على ستين عاما فى هذا المكان مثل عم سيد أقدم نزيل بمستشفى الجذام تركه أبناؤه وزوجته وحيدا طوال هذه السنوات الطويلة وتجاوز عمره التسعين وفقد السمع والبصر والحركة، ليعود طفلا بعد كل هذه السنوات يحتاج من يرعاه فى كل شئونه، وصابحة التى تركها والدها منذ ما يزيد عن 55 عاما وكان عمرها لا يجاوز خمس سنوات، تعرف أن لها أشقاء من والدها الذى تزوج بعد وفاة أمها ولكنهم لا يعرفون أن لهم أختا ولا يزورها أحد منهم، أطفال وشباب وشيوخ ونساء جمعهم مرض الجذام فى هذا المكان لسنوات طويلة، هذا المرض الذى لا يزال يجد مرتعا فى أجساد الفقراء الذين يعانون سوء التغذية والتهوية ونقص المناعة، ليعيشوا مأساة هذا المرض هم وأسرهم الذين كونوا قرية حول المستشفى بعد أن جاءوا من القرى والمحافظات المختلفة منذ سنوات ليكونوا إلى جوار مرضاهم بالمستعمرة، فبنوا منازل من الصفيح والطين، لذلك سميت قريتهم باسم 'عزبة الصفيح' قبل أن يتغير اسمها مؤخرا ليصبح "عزبة الشهيد عبد المنعم رياض" ويقطنها ما يزيد على 5 آلاف نسمة من هؤلاء المرضى وأبنائهم، حكمنا عليهم بالعزلة خوفاً من العدوى دون أن نلتفت إلى آلامهم وأحزانهم وضعفهم ودون أن ندرك أن التقدم العلمى والطبى قد يزيل الكثير من هذه المخاوف.
عرفت الكثير عن حياة هؤلاء المرضى من عم صبرى ذاك الرجل الطيب الذى اعتاد زيارتهم ومساعدتهم وأسرهم منذ سنوات طويلة، يندمج معهم ويعرف مشكلاتهم عن قرب ويسعى لتخفيف آلامهم، قرأت عنهم وعن مرضهم وسألت الأطباء كى أقتحم عالمهم واقترب من حياتهم ووطنهم المحاصر دون مخاطر، عرفت من الأطباء ومن تقارير منظمة الصحة العالمية ما يجب أن نعرفه جميعا حتى تزول مخاوفنا حيث تم اكتشاف علاج لمرض الجذام فى الثمانينات يمنع انتقال العدوى بعد شهر واحد من العلاج وأنه لا خطورة من مخالطة مريض الجذام بعد تلقيه العلاج وأن المرض يمكن الشفاء منه ولا ينتقل من الآباء للأبناء وأن هناك من أهل الخير ومن الراهبات من يداوم منذ سنوات طويلة على زيارة هؤلاء المرضى ومساعدتهم وخاصة كبار السن حتى فى أمور النظافة الشخصية حيث فقد الكثير منهم أطرافهم أو نظرهم بسبب تأخر تشخيص المرض واستمرار مضاعفاته، يفعلون ذلك دون خوف ودون أن تنتقل إليهم العدوى، دخلت عالم مرضى الجذام وعشت أياما فى وطنهم المحاصر الذى رأيت فيه ما لم أره خارجه، حب ودفء ومشاعر افتقدناها منذ زمن، جمع بينهم رباط أكبر من رباط الدم، حكايات أطفال وفتيات من نزلاء المستعمرة أصابهم المرض وطحنهم الفقر وعصرهم الألم يحتاج كل منهم ليد حانية تمتد إليه دون خوف لتخفف آلامه، وسيدات قضين سنوات العمر منذ الطفولة فى هذا المكان،
أصبحن أمهات دون أن يتزوجن أو يلدن بعد أن احتضنت كل منهن عددا من الفتيات والأطفال الذين أصيبوا بالمرض وفقدوا معه دفء الأسرة، تملك كل منهن قلبا يفيض بدفء الأمومة أصبحن جدات يفرحن بزيارة الأبناء والأحفاد بعد زواج وإنجاب من تولين رعايتهن ممن تزوجوا بعد شفائهم وانتقلوا للعيش بالعزبة إلى جوار المستشفى، قصص حب نشأت ونمت بين شباب وفتيات من نزلاء المستعمرة اقتسموا مشاعر الألم والصبر والعزلة وتوجت بالزواج بعد الشفاء، روح حب وتعاون تجعل الشباب من مرضى المستعمرة رغم آلامهم يتفانون فى خدمة شيوخها، أبناء لهؤلاء المرضى لم يصابوا بالمرض ولكنهم أصيبوا بلعنته بعد أن نبذهم المجتمع بسبب مرض آبائهم ويعانون الفقر والعزلة ومع ذلك يحلمون بغد أفضل، قصص لا يتسع المجال أو المساحة لذكرها، بشر ووطن وحياة لا يعلم عنها الكثيرون شيئا توارت خلف مخاوفنا التى تتنافى مع ما توصل إليه العلم، وإن كان بعضها يستند إلى الحديث النبوى الشريف "فر من المجذوم فرارك من الأسد" وهو ما جعلنى أرجع إلى علماء الفقه لتفسير الحديث عل ضوء ما توصل إليه العلم، ليؤكد لى الدكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الفقه وعضو مجمع البحوث الإسلامية أن هذا الحديث النبوى يعبر عن حرص الرسول "ص" وتحذيره ونصيحته لأمته من التعرض لأسباب العدوى بهذا المرض الذى لم يكن هناك ما يمنع انتقاله وقتها، وأن أسباب الفرار من المجذوم لم تعد قائمة الآن على ضوء التطورات الطبية الحديثة، وأن المبرر الذى كان موجودًا فى عصر الرسول "ص" وهو عدم اهتداء البشر إلى علاج لهذا المرض والتخوف الشديد من انتقاله لم يعد قائما، ولذلك وجب علينا ضرورة إعادة فهم هذا الحديث على ضوء ما توصل إليه العلم الحديث.
هذا هو جزء من صورة عن قرب لحياة بشر يستحقون منا أن نلتفت إلى آلامهم، وأن نغير نظرتنا القديمة نحوهم.
وأتمنى أن تسدد هذه السطور جزءا مما أدين به لهم.