الأمر هنا لا يتعلق أبدا بصياغة مقارنة بين شخصين وبالطبع ليس نوعاً من الفانتازيا أو تسالى الوقت.. الأمر هنا يخص مقارنة بين عصر تقول عنه الكتب إنه أكثر العصور ظلماً وفساداً وإهداراً لحقوق المصريين، وعصر نعيشه الآن ويطلقون عليه فى تليفزيون الدولة وصحفها أزهى عصور الديمقراطية.. المقارنة هنا تريد أن تقول إن هؤلاء الذين اغتصبوا البلد وورثوها لأبنائهم طوال فترة حكم الأسرة العلوية، بقدر ما أفسدوا وسرقوا ونهبوا، بقدر ما كانت خلايا الخجل تدفعهم إلى تبنى مشروعات قومية ناجحة ووضع بنية تحتية صادقة، مازلنا نعيش على خيرها حتى الآن، المقارنة هنا تريد أن تقول إن الخديوى إسماعيل ذلك الذى اتهمه التاريخ بالتهور والظلم وإهدار أموال مصر وخيراتها، كان يملك حلما لتنوير وتطوير هذا البلد ومساواته بالدول الأوروبية، بينما حاكم هذا العصر وكبار مسئوليه يعتبرون أن بناء كوبرى هنا أو إنشاء سور مدرسة هناك أو مد ماسورة صرف صحى فى قرية هو قمة الإنجاز.. هذا هو مغزى المقارنة وهدفها، وإذا أردت أن تستزيد من هذا الأمر وتعرف الفرق بين الظالمين فى الزمن الماضى وظالموا هذا العصر تعالى لنكمل ما بدأناه أمس.
إذا كانت مساحة الأرض المزروعة قد شهدت نمواً ملحوظاً فى عهد الخديوى، فإنها تشهد الآن حالة من التقلص لا تشبه تقلصات المعدة، لأن تقلصات المعدة علاجها فى حاجة إلى زيارة دكتور، أما تقلص مساحة الأراضى المزروعة فى مصر فعلاجها أصبح ميئوس منه، لأن دولة الرئيس مهتمة أكثر بأرض الجولف، أم دولة الخديوى فكان كل اهتمامها بالأرض التى تعيش عليها البلد، ولذلك لم يكن غريب أن تزيد المساحة المزروعة فى عهد الخديوى إسماعيل من 3.856000 فدان إلى 4.810.000 فدان، أى أنها زادت بمقدار مليون فدان تقريباً.
مع الوضع فى اعتبارك فروق الزمن وتطوراته يمكن أن تستخلص الفرق بين الرئيس والخديوى الذى يقول، إن هناك خديوى كان مهتما بما يخدم مصلحة بلده وقطاعا عريضا بها، وهنا رئيس أسقط من حساباته قطاع عريض اسمه الفلاحين، وعملية الإسقاط هذه لا يكفى لتبريرها كلمة أن الزمن غير الزمن أو أن مصر الآن بلد صناعى، لأن الخديوى إسماعيل وهو يهتم بالزراعة كان يبحث عن سبيل لتطوير البلد صناعياً وحضارياً.
صحيح أن الخديوى أدخل مصر فى دوامة الديون، والرئيس يسعى لتخفيف الديون، ولكن الخديوى حينما دخل بالبلد فى دوامة الديون كان من أجل هدف يسعى لتحقيقه للوطن وليس لنفسه، أما الرئيس فهو يسقط بنا فى حسابات أخرى ويقدم تنازلات قد تضر مستقبلنا فى مقابل أن يزيح ما تراكم من ديون يقول الواقع بأنها لا تنزاح.
وحينما نذهب لنقارن بين الخديوى والرئيس، من حيث علاقة كل منهما بالشعب، فلابد أن نلجأ إلى الدكتور قاسم عبده قاسم المؤرخ الشهير والذى يقول فى هذا الأمر، إن مسألة البحث عن هذه الفروق لابد أن تتم بشىء من الحذر، لأن هذا زمنا كانت له قيم سياسية مختلفة ترضى بما كان يحدث، فالخديوى لم تكن له علاقة مباشرة بالشعب، والفرد العادى لم تكن له أى علاقة بالنظام، نظراً لما كان معمولا به فى ذلك الوقت فيما يخص وجود نقابات وطوائف، كان شيخ كل طائفة هو المسئول عن تنظيم علاقات الناس بالنظام الذى يحكمهم، فهو الواسطة بين الفرد والحاكم، والمركزية وقتها لم تكن موجودة فقد كانت هناك أشياء كثيرة خارجة عن الخديوى، فمثلاً تمويل الصحة والتعليم وبعض الأشياء كان يتم من الأوقاف، بما يعنى أن هذا الانفصال كان طبيعة العصر، ولم يكن مرضاً أو عيباً فى مصر فقط، بينما نحن الآن وفى عز ما يلتحم الرؤساء بشعوبهم، لا يرى الواحد فيه وجه الرئيس إلا فى التفلزيون، وإن مر الرئيس فى شوارعنا أجبرونا على عدم الخروج وعطلوا مصالحنا، وكأن الهواء الذى قد يخرج مختلطا بزفيرنا قد يزعج السيد الرئيس أو يضره.
هذا الانفصال الطبيعى فى فترة الحكم الخديوية لم تمنع الخديوى إسماعيل أن يقرر النزول للناس حينما قرر الانتقال للإقامة فى قصر عابدين بعد الانتهاء من تشييده عام 1872، ويترك قلعة صلاح الدين الأيوبى التى ظلت مقراً لحكم مصر منذ عام 1171م.
هذا القصر الذى أمر الخديوى إسماعيل ببنائه فور توليه حكم مصر عام 1863، على أنقاض قصر صغير كان مملوكا لشخص يدعى «عابدين بك» على مساحة تسعة أفدنة ليصبح مقراً لحكم مصر، كان إعلانا عن رغبة حاكم فى النزول إلى شعبه وعدم الاحتماء والانعزال بقلعة صلاح الدين فى الجبل التى كانت تشبه البرج العاجى الذى يعيش فيه الحاكم بعيداً عن الناس، تطبيقاً للقاعدة المعروفة، اللى فوق فوق واللى تحت تحت، وطبعا لا يهتم من هو فوق بمن هم تحت ولا يشعر بمعاناتهم ومشاكلهم.. المهم أن هذا القصر الذى كان الانتقال إليه إعلانا لرغبة حاكم فى الالتحام بشعبه، قامت ثورة يوليو 1952 بفتحه أمام الشعب، وهدمت أسواره فتعرض وحدائقه للعديد من الانتهاكات، واحتلت الهيئة العامة للإصلاح الزراعى جزءاً منه، ووزارة الإرشاد القومى جزءاً آخر، ثم جاء عصر الرئيس مبارك ليتم تحويل القصر إلى متحف، ولك أن تلاحظ معى إن كنت من محبى البحث عن الاختلافات السبعة بين الصورتين، أن السادات وعبد الناصر حولا القصر إلى مكان جماهيرى فى دلالة واضحة تخدم توجههما فى تلك الفترة، وتقول للناس ها قد أتينا بحقوقكم لتصبح تحت أقدامكم، أما الرئيس فقد حول القصر الذى كان نموذجاً لنزول الحاكم إلى شعبه واختلاطه بهم إلى متحف، وكأنه يقول للناس، "انسوا أن يحدث هذا الاتصال، فلن ننزل من أبراجنا إليكم"، فلقد أصبح ذلك جزءاً من التاريخ ولن يصلح له سوى المتحف، وعاد الرئيس بنا إلى فترة ما قبل الخديوى إسماعيل حينما كان الحاكم يحتم بنفسه فى قصور بعيدة عن الناس، وعاد مرة أخرى يعيش بعيدا عن العمار ويكرر تجربة القلعة، ولكن هذه المرة فى قلعة ليست هى صلاح الدين بل قلعة تحمل اسم شرم الشيخ.
حتى نظام الحكم كان واضحاً لا لبس فيه فى عهد الخديوى، كما قال الدكتور قاسم عبد قاسم أستاذ التاريخ، إن مصر فى عهد الخديوى كانت ولاية فى دولة كبرى، جزء من إمبراطورية، وبالنسبة للخديوى هو أمير يعين من قبل السلطان العثمانى، حتى تحولت إلى ولاية تورث فى عهد محمد على، ثم إلى ولاية تورث لأكبر إبناء إسماعيل.. وهذا نظام واضح للحكم لا لبس فيه، أما بالنسبة للآن فنحن محكومون بنظام يقال إنه جمهورى يعنى يفترض فيه أن الناس تختار شخصا معينا لمدة حكم معينة يقوم بوظيفة لدى الناس، يعنى الرئيس هو موظف عند الناس التى يبقى لديها حق عزله أو الخلاص منه ومحاسبته، ولكننا فى مصر تحت نظام مختلف نظام بلا اسم وبلا توصيف ليس له مثيل هو فقط نظام قائم على الحكم بالقوة.
وغدا نستمكل باقى المقارنة.. ونعرف الفارق بين الحياة النيابية فى عصر الخديوى وعصر الرئيس.. والأهم سنعرف الفارق بين أوبريت اخترناه وكل الأغانى الرئاسية، وبين احتفالية افتتاح القناة الأسطورية..
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة